نذكر فيما يلي ما تيسّر مِن مشروعيّة مرجعيّة كتاب القرآن
الكريم ولزوم العمل
به.
وبعد فإنّ كتابَ
القرآن الكريم والسُّنّة الشّريفة المحمّديّة هما مرجعَا شرع الدّين الإسلامي
للنّاس قاطبة منْذ البَعْثة المحمّديّة إلى آخِرِ الدّنيا. ولا تَدَيُّنَ لأحدٍ
مهما كان جنسه ووطنه ولغته ولونه إلاّ بالاعتراف والعمل بهمَا معًا بقدْر الاستطاعة ، مع اجتناب ما نَهيَا عنه كلِّياًّ وبصفة مستمرّة.
ومَنْ ترك الكتابَ فلن تنْفعه السّنّة وحدها ، ومَنْ ترك
السّنّة فلن ينفعه الكتاب وحده ، والنّفع لا يكون إلاّ بٱلاثنين معًا.
وفيما يلي نُقدّم
المشروعيّة الربّانيّة من آيات قرآنية وأحاديث نبويّة:
إنّ اللهَ سبحانه وتعالى أنزَل لنا الكتابَ
دون شكٍّ ولا رَيْبٍ مِنْ أنّهُ حقٌّ ، وأنّه هُدًى لِلْمتّقين ، ومِنَ المعلوم أن
يكون لِغير المتّقين ريبًا وظُنونًا سيِّئةً ولا ينْتَفعون به أبدًا.
وإنِّي أُوصِي وأَنصَحُ كـل المنتَسِبين إلى
دينِ الإسلام بأنْ يُحافظوا على هذا الكتاب العظيم ، وأَلاَّ يَهْجُروهُ بٱلانْقِطاع عنْ قراءَتِه ، ولا بالانقطاع عنِ العمل به ،
وأنْ يكون ذلك كُلّه لوَجْهِ الله تعالى ، فهو أعزُّ وأثْمَن كتابٍ ، ولا يُقارنُ
بغيره بَلْ لا وُجودَ لغيره أصلاً ، والعِلْمُ الّذي حواه
لا يوجد بأيِّ كتاب إلاّ ما كان مُسْتَمدًا منه ، فتمَسّكوا به فهو الـمُنقِذُ
مِنَ الضَّلال ومِنْ عذابِ الجحيم والهادي إلى جنّات النّعيم. ولا تكونوا كمَنْ
قال اللهُ لهم تنْبِيهًا وزجْرًا وتوْبِيخًا: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ
قَوْماً مُّسْرِفِينَ﴾5 الزخرف.
أيْ أفنتْرُكُكم سُدًى فلا نأْمُركم ولا ننْهاكم ؟
ونلاحظ أنّ التّرْكَ سُدًى لا يكون ، لأنّ الله سبحانه وتعالى دبَّرَ الأمُورَ
بمقتضى مشِيئَتِهِ ، وحُكْمُه ماضٍ بلا تبْديلٍ ولا تغييرٍ.
فٱحْذروا
، بارك الله فيكم ، مِنَ الوقوع في المعاصي بسبب كثْرة الغفلات.
فالّذين يقرؤون القرآنَ حقَّ قراءته أيْ الّذين يقرؤونَه على
قواعِدِه الّتي نَزَلَ بها ، والّذين في قِراءتهم فَهْمٌ له وتَدبُّرٌ في معانِيهِ
، فهؤلاء هم الّذين يُؤمنون به ، ويعملون بما جاء فيه مِنْ حِكَمٍ وأحكَامٍ ، وهم
السّائرون المنتهجون نهجَ خيرِ الأنامِ ، الواصلـون إلى
أعلى مقام بدار السّلام منْ جنّاتٍ وإنعامٍ.
3- لِلتّخلُّص مِنْ مسؤوليّة الدّعوة والتّبْليغ أمام الله عزّ
وجلّ.
4- لِيكونَ حجّةً للنّاس فينْتَفِعوا بها ، أو حجّةً عليهم ،
وحتىّ لا يبقى للنّاسِ حجّة على اللهِ بعد الرّسل.
أمّا مَنْ لم يُبلّغ منهم أو كتمَ أوْ جَحدَ
فقدْ ارْتَكب خيانةً عُظْمى ، وإنّـه سَيَتحمّلمسؤوليةً عُظمى أمامَ اللهِ عزّ و جلّ في الموْقْف يوم الحساب.
وإنّي أقول: إنّ
مَنْ لم يَفْهَم القرآن لا يقْدِر على إفْهامِه لِغَيْرِه ، وكذلك مَنْ لم ينْتَفع
بالقرآن لا يقْدِر على نفْع غيرِه ، ومَنْ لم يَنْتَصِحْ بالقرآن لا يقْدِر على
نُصْحِغيْـرِه. وإنّ الرّبحَ والفوزَ
بالقرآن يكون في فَهْمِ مَعانيه وأسْرَارِه غير أنّه لاَ يُمكِن ذلك إلاّ بعد
تروِيض النّفوسِ وإلْزامها على العمل بأحكامه:
أ- القيام بما وجبَ
عليها حسبَ المطلوب وعلى قدْر الاستطاعة.
ب- الانتهاءُ عمّا نُهِيَتْ عنه ، فبعد ذلك يعرف كلُّ عاملٍ
مَعنى القرآنِ وقيمتِه وحقيقَتِهِ وأسرارهِ والمنافع المُتأتيّة مِنْ ذلك كلّه.
فلم يكن هذا الكتابُ لمجرَّدِ قراءته فحسب ، وإن كان ذلك حسنًا
جدًّا ، ولكنّ المطلوب والأفْضَلُ مِنْ ذلك بكثير هو الاسْتِفادةُ مِنَ التّدبُّر
في آياته والاسْتِنارةِ للهداية إلى الحقيقة لإدراك الغايةِ السّاميةِ الّتي
تتنوّع حسبَ تفاوتِ رغبة المتّقين ، فمِنهم مَن يُريد الدّنيا بعبادته وهذه
مُصِيبة ، لأنّ العبادةَ هنا تُعتبر على حرْفٍ ، ومنهم مَن يُريد الدّنيا والآخرة
، ومنهم مَن يُريد الآخرة ، والأفضل مِنْ ذلك كلّه هي إرادة معرفةِ الله تعالى
معرفة شُهود وعِيان ، لأنّه ليس الخبر كالمعاينة ، وصدق رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم الّذي قال في هذا الشأن جوابًا عن سؤال الملَك جبريل عليه السّلام عن
الإحسان أمام جمع من الصحابة:
(الإحسان أن تعبد الله كأنّك
تراه)رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وقال أحدُ الحكماء: كيف أعْبُدُ مَنْ لا أراه ولا أعْرِفه، ويعْني بذلك أنّه
يعْبُدُ مَنْ رآه وعرَفَه.
فهذا الكتاب ليس مُخصّصًا للأنبياء والرّسل ،
ولا لِلْعرب دون غيرهم وإنْ كان ِبلُغَتِهم ، ولا لِجيلٍ دون آخر، ولا لِزمانٍ دون
آخر ، ولا لِبَلدٍ دون آخر، إنّما هو للنّاس كافّة في جميع أنحاء المعمورة لا فرْق
بين هذا ولا ذاك ، ولا هذه ولا تلك ، ولا الغرْب ولا الشّرق ، ولا البعيد ولا
القريب ، ولا الأبيض ولا الأسود ، ولا الغنيّ ولا الفقير، بل للنّاس جميعا وكلّهم
عبيدٌ لله عزّ وجلّ مُؤمِنهم وكافرهم وعاصِيهم وفاجِرهم وإليه تصير الأمور. فعلى
النّاس أنْ يكونوا في المصير الحسَنِ أو الأحْسَن قبْلَ أنْ يفوتَ الفَوَاتُ فلا
يجدون فرْصةً عند موعِدِ الرّحيلِ بسببِ الموْت، كما جاء بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ
يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمَانِهَا خَيْراً﴾158 الأنعام.
فعدم النّفْعِ
للنّفس يرجع إلى سببين:
1-إن لم تكن آمنت قبلَ موعد الموت.
2-إنْ
لم تكن قد كسَبتْ في إيمانها سابقًا خيرًا ، أيْ لا خيْر في إيمانها.
فاتِّباعُنا للكتاب عملاً وقولاً فَرضٌ علينا ذكورًا وإناثًا ، لأنّه يحتوي على كيفيّة تَقْوانَا لله تعالى الّذي
أمَرَنا بها لِنَيْل رحمَته ، ومعْرِفة كيْفيةِ عبادَتِه ، وكيْفِيَةِ المعاملات
بين النّاس. ويُمْكِن أنْ نقول إنّه احْتوى على العادةِ والعبادةِ ، بحيث لمَ يترك
شيئًا لم يتَعرَّض لذِكْره ، وإذَا لم نجِدْهُ فيه فذلك يرجِع إلى تقْصِيرٍ مِنّا
إمّا لعدمِ الفَهْم له أو عدم الرّغبة فيه أو عدم الاسْتِقامة عليه.
إنّ الله تعالى أمَر بقيام الدّين كما هو منصوصٌ عليه بالكتاب
، ونهى عن التّفرُّق فيه ، ورغم ذلك فالتّفرُّق كائنٌ بالأمس واليوم وتُشَكِّلُه
كثيرٌ مِنَ الطّوائفِ والمذاهب المتزعِّمة لِلدّين مِن جهةٍ والأحزاب الحاكمة
وأخرى دخِيلـة لها أفكار ونظريات تختلف تماما مع المبادئ والقِيَم الإسلامية.
وبصراحة لو جعلنا الحسابَ ، وأقَمْنا الميزانَ بالقسطِ ، وقارنَّا أحوالَ هؤلاء
بالكتاب والسُنّة لوجدنا الأغلبية السّاحقة منها في ضلالة سواء كانوا مِن هَؤلاء
أو مِنْ أولـئك ، وبذلك أصبح الدّين لا معنى له ولا اعتبار عندهم إلاّ القليل
منهم.
يا حسرةً على
النّاس! لو أنّهم تمسّكوا جميعا بشرع الله العزيز لوجدوا أنفسَهم طائفةً واحدةً بل
أمّةً واحدةً لا خِلافَ ولا اخْتِلاف ولا تفرُّق بل يكونوا مُتمسِّكين بما آتاهم
به الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الرّبّ الرّحيم عزّ وجلّ.
فالرّسالة هِدايةٌ ، والدّين حقيقةٌ
، وقد أظهرَ اللهُ تعالى لهذا الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم كلّ الدّين:
ظاهرًا وباطنًا وسرًّا وحلالاً وحرامًا ومُتشابها ونافعًا وضارًّا وغير ذلك.كما أظْهرَه على مقامات الدّين كلّها بداية مِنَ مقام
الإسلام إلى ما لا نهاية في مقام الإحسان ، ويكفي أنّ الله شهيدٌ على أنّ محمّدًا
رسولٌ ولَو أنْكر ذلكالجاحدون ، ويكفي
كذلك أنّه عُرِجَ به إلى الملإ الأعلى فكان قاب قوْسيْنِ أو أدْنى مِنْ ذلك مقامًا
، بحيث وَقفَ كلّ الأنبياءِ والرّسلِ دونه.
فنقول كما قال اللهُ إنّ الّذين آمنوا
بالكتاب كان لهم هُدًى مِنَ الضّلال وشِفاءً مِنَ العِلل والأدواءِ البدنيّة
وخاصّة القلبيّة. أمّا الّذين لا يؤمنون به فلا ينْتَفعون منه ، ويكون في آذانهم
عند سماعه وقْرًا أيْ صمَمًا ، وهو عليهم عمًى أيْ لا يهتدون به ، ومَنْ لم يهتدِ
فهو بمثابةِ الأعْمَى.
ولرفع الالتباس بيّن الله تعالى أنّ الحُكمَ
للعربِ بفضلِ ما أَنزلَ عليهم مِنَ الكتاب وبلِسانِهم ولِكَوْن نَبِيّ الأمّة
عربيّ منهم وهو الّذي يَسُوس أمّته المسمّاة بالأمّة المحمّديّة منذ بِعْثَته صلّى
الله عليه وسلّم إلى قيام السّاعة ، لأنّه هو خاتم
الأنبياء والمرسلين. مع العلْم أنّ كلَّ مَنْ بقيَ مِن الأُمَم السّابقة يُعتبر
رسميّا مِنْ أمّته مهما كان جنْسُه ولونه وجيله ، ولا فرْقَ بين عرَبِيٍ ولا
عجَمِيٍ إلاّ بالتّقوى حتّى لا يظنّ مَنْ ليس بعربي أنّه بعيد عن اللهِ أو عن
الرّسول بل الأكرَم والأقرب إلى اللهِ مِنَ الجميع هو أتْقاهم.
ولما قال الله
حُكمًا عربيًا فكان على العرب أنْ يُلبُّوا ويتبنّوا ويحْتضِنوا هذا الحُكمَ
ويكونوا أوّل مَنْ يحْكُمون به على أنفسِهم سواء كانتْ أحكامًا خاصّةً أو أحكامًا
عامّة وعلى مَنْ هو في المشرق أو في المغرب ، وفي قضايا فردية أو جماعية أو
إقليمية أو دُوَليّة. وعلى المسلمين الآن أن يُراجعوا أنفسَهم ويسْعَوا لِلتّخلُّص
ممّا حلَّ بهم بسبب هَجْرِهم للكتاب ، وأن يُسارعوا لِلْقيام بحدود الله كما أمرَ
، حتّى يُغيِّروا ما بهم مِنْ كروبٍ وبلاءٍ وإلاّ فالآتي أشدّ عليهم مِمّا مضى وإن
كانوا يروْن أنّهم في خير فالعاقبة وخيمة والمصير للعذاب الأليم.
إنّ ما جاء
بسورتَيْ المائدة والنّور هو فرْضٌ على النّاس جميعاً ، وخاصّة الأحكام الحتْميّة
كقطع يد السّارق والسّارقة ، وجَلْدِ الزّانية والزّاني ، وغَضِّ أبصار الذّكور
والإناث على حدّ السّواء ، وعدم إبْداءِ النّساء لِزينتهنّ في الحالات غير
المشروعة وذلك للمُحافظة على الشّرف والأنساب ، ولِدوام سلامة وطهارة المجتمعات
الإسلاميّة مِنَ الوقوع في الرّذيلة بصفة رسمية ونهائيّة ، ولِكيْ تعيش سليمةً
وآمنةً وأمينةً وشريفةً وعفيفةً في الدّنيا ، ثمّ تعودُ بزاد التّقوى إلى ربّها في
الآخرة ليكون حظّها الجنّة وزيادة ، الّتي فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذُنٌ سمعتْ
ولا خطر على قلب بشر. فطوبى للوافدين عليها ، خاصّة الّذين باهى بهم ربُّهم
الملائكةَ ، وباهى بهم نَبيُّهم الأمَمَ. فتفطّنوا يا عبادَ اللهِ وبادروا إلى
أعمال الخير والصّلاح لتكونوا منهم أو مثلهم.
إنّ المتمسّكين
بهذا المبدأ بإذن اللهِ تعالى لا يختلفون عنْ أمْرِ ربّهم، وهم الرّاسخون في علْم
الظّاهر ، وقد يكونون كذلك راسخين في عِلْم الباطن ، وبخٍ بخٍ لهؤلاء فهم الّذين
حازوا مقامات الكمال بفضلٍ ورحمةٍ مِنَ اللهِ تعالى.
إنّ القرآنَ فرضٌ على رسولِ اللهِ أصالةً ،
وعلى كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ بٱلإتّباع، وليس هو فرْضٌ على شخصٍ واحدٍ أو على
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فحسب، والفرْض يكون في قراءته ، ويكون في تدَبُّره ،
ويكون في العمل به ، ويكون في الإخلاص فيه ، فهو نور مُبين للاهتـداء به على
مِنهاج اليقين.
وجاء في السنّة الشّريفة :
1- (... ألا
إنّ رحى الإسلام دائرة ، فدوروا مع الكتاب حيث دار ، ألا إنّ الكتاب والسّلطان
سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب...)المعجم
الكبير للطبراني عن معاذ رضي الله عنه.
يعني أنّ أوضاعَ الإسلام غيرُ مُستقرةٍ على حالةٍ واحدةٍ ، فهي
تدور مع دوران الزّمن ، ولماّ خَشِيَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يَدورَ
المسلمون مع غيرِ دوران الكتاب فيُخْذَلوا بمروقِهم مِنَ الدّين مِنْ حيث لا
يشعرون ، أمَرهم بالدَّوران مع الكتاب حيث دار، أيْ بملازمتهم للكتاب وأهل الكتاب
، وقوله هذا لسابِق عِلْمِه صلّى الله عليه وسلّم مِنْ أنّ السّلطان أيْ مَنْ
بيدهم الحُكْم سَيفترقون عن الكتابِ كما ترون في هذا الزّمان مِنْ أنّ الكتابَ
وأهلَه غرباء، أمّا النّاس فهم ملازمون لسلاطينهم، والسّلطان وأتباعه في جهةٍ،
والكتاب وأهله في جهةٍ أخْرى بعيدين عن بعضِهما ولم يكونا معـًا، وصدَق مَنْ قال:
"النّاس على دين ملوكهم".
2- (آلُ القرآن
آلُ الله)للخطيب في الجامع
رواه مالك عن أنس.
نعم ! فالمتمسّكون بالكتاب هم أهل اللهِ ولا ينتسبون لأحدٍ سواه ، لأنّهم فَارَقوا كلّ ما اضطرّوا لفراقه مِنْ عزيز عليهم
، أو ما يحتاجونه لحياتهم وصبَروا رغبةً فيما عند الله هو خيرٌ وأبقى. وحمِدوا
اللهَ على كلّ حـال.