مسيرة الدليل >> نور على نور >> الجمال والحب

الجمال والحب

     الجمال والحبّ أو الحبّ والجمال. فإذا قلنا الجمال والحبّ باعتبار أنّ الجمال سبق الحبّ وأنّ الحبّ ارتبط به ارتباطا وثيقا كما نرى أنّ الأشياء مِن الكائنات تُحبّ بعضها بعضا بسبب الجمال المتجلِّي بها أو فيها أو عليها.

 

     أمّا إذا قلنا الحبّ والجمال باعتبار أنّ الحبّ سبق الجمال إذا عرفنا أنّ الحبّ إرادة الشّيْء والعناية به والرّغبة فيه ، فهذا الحبّ أراد الجمال ، وصنَعَه لإثبات عناصر هذا الوجود بعضها ببعض ودوامها لدوام الحياة في هذه الدّنيا. لترغيب النّاس بذلك في الحياة السّرمدية في الآخرة مِن جهة ، ومِن جهة أكبر وأهمّ لمعرفة الخالق البارئ الواجد لهذا الوجود ليسْجدَ له مَن في السّماوات ومَنْ في الأرض والشّمس والقمر والنّجوم والجبال والشّجر والدّوابّ وكثير مِنَ النّاس سجودَ تعظيم وتنْزيه وتقديس.

     وإنّا نقول: أنّ الجمال أصله معنوي ، وأنّ الله سبحانه وتعالى عند إحداثه للهياكل الكونية بعث فيها مِن سرّه اللّطيف المسمّى بالرّوح فتخلّلها الجمال وكان ويكون أصل حياتها به. فإذا انقضى أجلها المسمّى بالوجود تلاشى منها ذلك السرّ ، فرجعت إلى ما يسمّى بالعدم وذلك لتلاشي جمالها ، وإن كانت مُقدَّسة فقد يفتقد منها هذا المعنى في ظاهرها رغم بقاء النّظر إليها بأدب واحترام.

 

     وإنّ أفضل جمال هو السرّ الذي تحيا العوالم به ، والدّليل على ذلك أنّ الله تعالى لم يأمر الملائكة وإبليس بالسّجود لآدم عندما كان هيكلا « طينا » إنّما أمَرَهم عندما نفخ فيه مِنْ روحه أي عندما بعث فيه سرّ الجمال مصداق قوله:

﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ 29 الحجر.

     إذًا فالجمال في كلّ الوجود غير أنّ الآدميَّ خُصّ بسرّه وهذا سبب عدم سجود إبليس الملعون لآدم وذلك نتيجة حسده له.

إنّ الجمال هو شعاع علوي أو نور روحاني يبسطه الله الجميل البديع جلّ جلاله على كلّ ما كان وما يكون مِن الهياكل الكونية بأسرها، فيكسوها روعة ويجعلها سحرا وفتنة ، حيث تراها تسجد لبعضها بعضا بسبب ما تعلّق بها مِنْ محبّة لفوائد حسية أو معنوية ظاهرة أو خفية لحِكمةِ المدَبِّر الحكيم علا شأنه وعَظم سلطانه.

 

                                                                           

وإنّنا نرى أنّ الجمال صَنِيع الحبّ إذا قارنّا ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 82 يس.

أي أنّ الجميل جلّ جلاله إذا أحبّ شيئا أمَره بالكينونة فيكون.

-  لولا الجميل جلّ جلاله ما حصل الجمال والحسن والبهاء.

- ولولا المراد جلّ جلاله ما حصلت إرادة الحبّ والرّغبة.

- ولولا الحبّ ما أطاع عبدٌ معبودَه.

- ولولا الحبّ ما حملت أنثى مِن ذكر.

- ولولا الحبّ ما هبّت ريح لتلقيح شجر.

- ولولا الحبّ لمات مَنْ كان يعيش داخل البحر حيث تغشاه المياه.

- ولولا الحبُّ ما كانت السّوائل نارا والنّار سوائل.

- ولولا الحبّ ما كان لنا جمال في الأنعام ممّا اشتملت عليه مِن لحم وصوف ووبَر وشعر وجلد. الأغرب مِن هذا كلّه هي ألبانها التي تخرج مِن بين فرْث ودم خالصة سائغة للشّاربين. فهذا فضل الجمال والحبّ كما نصّت الآية.

﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ¤ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ¤ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ¤ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 5-8 النّحل.

والجمال عندنا: يكون أوّلاً منظورا وثانيًا مستورا.

 

- فالجمال المنظور بعينَيْ البصر هو: عالَم الملْك أو عالَم الحسّ أو عالم الظّهور وما تجلّت فيه مِن تجلّيات سحَرتْ فيه عقولَ البشريات.

- والجمال المستور يُرى بعين البصيرة هو: عالَم الملكوت أو عالَم المعنى أو عالم البُطون وما تدفَّقت مِنه مِنْ أسرار خفِيَتْ أو تعلّقتْ بالمنظورات فرسّختْ فيها جمالا مِن جميل الذّات جلّ جلاله حارتْ فيه عقول البشريات.

- أنظروا إلى جَمال الهواء وما فيه مِن مادّة "الأكسِجين" التي يتغذّى بها كلّ مخلوق.

- أنظروا إلى جمال شعاع الشّمس والقمر الذي فوائده لا تُحصى ولا تُعدُّ.

- أنظروا إلى جمال الرّياح التي تأتي بالأمطار وهذه تُحيِي كلّ شيء فيصبح هو نفسه جميلا كما نصّت الآية.

﴿... وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ¤ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. 5-6 الحج.

    ما أجمل هذا الجمال وما أعظمه حيث تساوَى في خلق كلّ الدّوابّ مِن ماء ، فكان جَعْلُ هذا الإنسان وذاك القِرْدُ وهذا الفيل وتلك البعوضة بمثابة واحدة في الخلْق والإحساس والشّعور.

- أنظروا إلى الإنسان الذي يرى نفسه أنّه أجمل مِنْ كلِّ جميل وكيف أنّ الله تعالى جعل فيه العقل المميِّز فصار بذلك جماله كاملا بالنّسبة لغيره مِن المخلوقات. لذلك قال الله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ¤ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ20-21 الذاريات.

هذا الجمال في الأرض وفي أنفسكم هو آيات للموقنين ليعتبروا ، وعليهم أن يُبصِروا ليعرِفوا أنّ الجمال مصدره واحد ومعناه واحد ، غير أنّه تشكّل بألوان مختلفة باختلاف مظاهر الوجود ، حسب ما اقتضته وشكّلته الإرادة الإلـهية.

 

    إنّ كلّ مظهر مِن مظاهر الوجود أو كلّ كائن دون استثنـاء يرى أنّه أجمل ما كان. وكلّ جمالٍ فهو مِن الجميل جلّ جلاله ، لذلك ترى أنّ الأُممَ في السّماء أو في الأرض تخضع له بالسّجود والتّسبيح. ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ 38 الأنعام. فكلمة أمثالكم تدلّ على العبودية ومعرفة تعلّق أسباب معيشتهم بالرّبوبية. يؤكَّد ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً44 الإسراء.

    فليعلم الإنسان أنّ الوجود بأسره يَعرف الواجد عزّ وجلّ ويعبُده ويُسبّحه وذلك شكرا لما رأى مِنَ الجمال والحبّ في ذاته وصفاته. ويا للأسف فإنّ الكثير مِنَ النّاس غافلون إلى حدّ بعيد عن هذا كلّه رغم أنّ الله أكرمهم عن كثير مِنْ غيرهم مِنَ المخلوقات.

- أنظروا إلى القرآن الكريم كيف تعدّدت منافعه وعظُمت عجائبه حيث لم تنته ظاهرةً ولا باطنةً ولا مَطْلعًا ولا حدًّا غير أنّ العامّة مِن العلماء وقَفوا على رسومه فقط. أمّا الخاصّة منهم فقد غاصوا في بحر بطونه وأسراره وشتّان بين الفريقين في معرفتهم ونظرتهم إلى الجمال. فلكلٍّ منهما نظر وفَهم. فهذا نظرَ الشّكل والرّسوم فكفاه لنيل مُراده مِنْ ذلك ، وذاك يتعدّى بنظرةٍ إلى سرِّه أو روحه الذي به يقوم فيجدُه نورَ الله الذي لا إلـه إلا هو الحيّ القيّوم الفاطر لكلِّ شيء. سبحانك اللهمّ تنْزيها وتمجيدا وتقديسا ولك الحمد في الأولى والآخرة.

      إخواني ، لو بحثنا عن السرّ في جسم الإنسان مثلا فيقينًا أنّنا لا نتوصّل إلى معرفة حقيقته. ولو قمنا بعمليات تشريح عصرية للجسم بحثا عن سرّ النّظر، أوْ سرّ اللمس ، أوْ سرّ الذّوق ، أوْ سرّ النّكاح ونحو ذلك ؟؟ إنّه مخبّأ ومَوْدُوع في جسم الإنسان بصفة مستورة عن فهمه ، هذا كلّه مِنَ الجمال.

    فالجمال به تعيش وتحيا كلّ الهياكل الكونية ، فإذا انتُزِع منها بالموت أصبحت بلا جمال سواء جمال ذاتها أو صفاتها.

    فلو تمعنّا مليًّا في هذا الأمر لوجدنا أنّ الجمال لا يساوي شيئا لولا الحبّ ، وأنّ الحبّ لا يساوي شيئا لولا الجمال. ويمكن أن نقول: إنّ الحبّ هو الجمال وإنّ الجمال هو الحبّ والمعنى واحد كذلك لو قلنا إنّ الجمال هو الحبّ وإنّ الحبّ هو الجمال.

 

     وهكذا كانت ولازالت أسرار الله عظيمة ولها معانِيَ وقِيَم مُفيدة للغاية لا يُدركها إلاّ أُولو الألباب وهي مِن نِعم الله التي لا تُحصى ولا تُعدّ. علينا أن نستوعبها شكلا ومضمونا مِن جميع أوْجُهها لنعرِف بذلك اللهَ الْمُنعِم جلّ جلاله حقّ المعرفة فنتّقيه حقّ تُقاته ، ونشكره حقّ شُكره ، ونُقدِّره حقّ قدْره مِن حيث الجمال والحبّ ونأخذ القياس على ذلك لجميع الأشياء سواء كانت ظاهرة أو خفية. والحمد لله الذي كلّ يوم هو في شأْن ، لا يدري كُنْهَه ولا يحصره ولا يطّلع عليه مَلَك ولا إنس ولا جانّ إلاّ بما شاء هو عزّ وجلّ!


الحرية...

أيها الدعاة إليها ... دلوني بالله عليها
اخترنا لكم


رحلة الى الجنة و نعيمها



في ظلال آية: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ



نداء إلى الرحمة
والتراحم

الإحسان إلى
الصالحين

الإحسان إلى الصّالحين يـُـــــكسِب صاحبه درجات اليقين...