- لقد وجدْنا في القرآن العظيم ما لفتَ
الأنظار وأذْهل العقول وحيّر الأفكار من الله سبحانه وتعالى وما اتّصفَ به مِنْ
عظمةٍ وجلالٍ ، كيْف يُقسِم بمخلوقاته المكانيّة والزّمانيّة مِنْ عوالِم الغيْب
والشّهادةويُعطي لها قيمةً وشأناً ؟
كأنّه يريد أنْ يُعلِّمنا شيئًا جهِلْناه وهو التّوحيد لذاته وأسمائه وصفاته
وأفعاله. ولِيُبيّنَ لنا كيف وحّدْناه إن كنّا غافلين عن أصل أرضه وسمائه ؟ يبدو أنّه أراد بما أقسَم تعْلِيمَنا بما جاء بقوله
تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾35 النور. أي أنّه
يُقْسِم بذاته لِذاته أو لِذاته بذاته لأن السّماء مِنْ ذاته النّورانية والأرض
مِنْ ذاته النّورانية ، وما فيهما وما بينهما مِنْ ذاته النّورانية. فلا عجبَ في
ذلك لأنّه أقسَم بكلّ شيء نراه عظيمًا وحقيراً وكبيراً وصغيرًا وظاهرًا وخفيًا
والكلّ عنده عظيم ، ولم يبق شيء لم يُقسم به تعالى كما سيأتي بيانه فيما بعد:
- إنّ هذا المثل الذي قدّمه الله تعالى لنا فيه
سِرّ عظيم يُشبه ما جاء بالقسم ، ومعناه أنّه لا شيء على
اللهِ إنْ ضرب لنا هذا المثل الذي يراه الكثير مثلاً حقيرًا ، رغم أنه مثل عظيم
جدًّا. فـ "مَثَلاً
مَّا" أيْ أنْ يضربَ أيّ مثلٍ كان
بأيّ شيء كان. وهذا المثل بالذّات هو: "بعوضة " فهذه البعوضة التي
كانت مثلاً "فما فوقها" هي إشارة استفهامية للمُجادلين
والمعاندين والمعاجزين وكذلك للرّاغبين في اللهِ تعالى ِليبْحثوا ملِيًا في ذلك
السرّ الذي تحْمله البعوضة ، ويُجِيبوا أنفسَهم عنه ليكونوا مِنَ الموقنين.
- أليستْ هذه البعوضة كغيرها مِنْ
خلْق اللهِ تعالى لها أجنحة وأرْجل وبطن وظهروخُرطوم ، تأكل وتشرب وتسعى
لذلكولها أبٌ وأمٌّ وتتناسلوتُنْجِب ، والأغرب مِنْ ذلك
أنّها قانِتة لِربّها العظيم مِصداق قولِه الكريم: ﴿سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ
لَّهُ قَانِتُونَ﴾116 البقرة. إنّها تحْمل فوقَها سِرّ اللهِ تعالى الذي لم
يتَوصّل الجاحِدون والمعانِدون وأمْثالِهم إلى معْرِفته. فهاهي بعوضةٌ عَرفَتْ ما لم
يعْرِفوه وبلغَتْ مكانةً لم يكونوا بالِغيها. إنّها تُسبِّح وتَسْجدُ للهِ تعالى، وإنها لعظيمة حقًّا. وصدَق
الله عزّ وجلّ الذي ضربَ لنا بها المثَل ، وصدَق الله
الذي أقْسم لنا بها وبغيرها. نعَم وهْوَ كذلك ، لأنّه أقْسم بما تُبْصِرون وما لا
تُبْصرون ، فهذه البعوضة قد بصرْناها وعرفْنا سِرّها ومعناها الذي حَوَتْه ،
وأصلُها الذي هو نورُ اللهِ المتجلّي فيها وفي غيرها مِنْ جميع ما كان وما يكون.
لا إلـه إلا هو سبحانه عمّا يُشركون وعمّا يصِفون.
- هذا القَسم الذي أقْسم اللهُ فيه بذاته
مُضيفًا إيّاها إلى نبِيّه ورسولِه الكريم سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم
لإظهار عظمةِ شأنِهوعلوّ مكانتِه
وإثْباتِ حُكْمِه على النّاس حيث بيّن في هذا القَسم أنّه لا إيمان لمن لم يُحكِّم
الرّسولَ النبّيّ الأمّيّ مع الرّضا بما قضى والتّسليم لذلك بارتياح تسليمًا
كُلِّيًا.
- والملاحظ أنّ للرّسول صلّى الله
عليه وسلّم أمْرًا ونَهيًا وحُكمًا ووجب على النّاس الطّـاعة له وبيّن اللهُ تعالى
الخطر على مَنْ يخالِفه بالآية الكريمة التالية:
- وعلى الذين لا يروْن مكانةً
للرّسول صلّى الله عليه وسلّم في أنفسهم ولا فضلاً ولا أمْرًا ولا نهيًا ولا
حُكمًا أنْ يحذَروا مِنْ غفْلَتهم هذه التي سبَبُها الجهل ، والابتعاد عن ممارسة
القرآن وعن الاتِّصالبأهل اللهِ
الذّاكرين الذين أوْصى اللهُ تعالى بالسّؤال عنهم للانْتِفاع بهم لئلاّ يُصبِحوا
كما نصّت الآية الكريمة التالية:
- أقْسم اللهُ تعالى
بحياة نبِيّه الرّسول الأمّيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم أنّ قومًا في سكرتهم
يعمهون وذلك لعِلْمه أنّ حالةَ هذا القوم قد تمتدّ إلى أقوامٍ وأقوامٍ آخرين ،
ومازالتْ تمتدّ إلى الآن وتغْشى مَنْ هم في سكْرتهم يعمهون ، أيْ يتردّدون في
الجهل والضّلال المبين. ولا يعِيرون وزْنًا واهتمامًا للكتاب ولا للسُنّة لأنّهم
يروْن أنّهم قدّموا للإنسانية أفْضل مِنْ ذلك بكثير وهي: الحضارة والتّقدم. وعليهم
فُروضٌ في ذلك ولهم كتُب وصحُف ودعْوة عظيمةٌ لإزالة العقيدةِ الإلـهيّة مِنْ
عقولِ النّاس الذين استَضْعفوهم لجهلهم وقِلّة إمكانياتهم العِلْميةِ فأمَالُوهم
إلى الشّهوات المحرّمة.
- أمّا نحن فلا نرى لحضارتهم هذه
وزنًا ولا أهميةً لِمَا لنا مِنْ حضارةٍ أزلية مِنْ ربّنا العظيم. والتّقدّم فيها
رفيعٌ إلى المقام المنيع الذي لا خوْف فيه ولا حزن. إنّها حصانةٌ ربّانية لأوليائه
الذين آمنوا به وكانوا يتّقون وليست حصانة إنسانية خارجة عن نطاق المعقولية تنْعدم
بانْعدام المسؤولية وفقدانها لأيّ سبب مِنَ الأسباب السّياسيّة.
اسمعوا معي قسمَ الله تعالى
بمواقع النّجوم تعظيمًا لكتابه الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه ولا مِنْ خلْفه
تنـزيل العزيز الحميد:
قد نستنتج مِنْ هذا القسم ثلاثة مفاهيم في المواقع وهي:
1- مواقع
الأفلاك التي توجد فيها النّجوممع تسبيحِ كلّ مِنَ النّجـوم والأفلاك لعظمةِ
اللهِ تعالى وقُدْرته.
2- القلوب التي
حوَتْ القرآن الكريم لماّ نزل عليها نجومًا أيْ شيئا فشيئا سواء كان نزول ألْفاظٍ
أو نزول معانٍ وأسرارٍ مع العِلْم أنَّ نزول الألفاظ قد انتهى أمّا نزول المعاني
والأسرار فهو متواصل النّزول على مَنْ كان له أهلاً.
3- الملائكة والعلماء
الرّاسخون في العلْم حيث أنّ وقوعَهم ورسوخَهم لا يكون إلاّ في ذاتِ اللهِ
العلِيّة كما يُؤْخذ مِنْ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾206 الأعراف.
﴿فَإِنِ
اسْتَكْبَرُوا فَالذينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾38 فصلت.
ملاحظة:نعتبر أنّ المقرّبين عند الله المذكورين
بالآيات هم مِنَ الإنس لأنّه كما قلنا سابقًا أنّ القرآن الكريم نزل لنا نحن بنو
الإنسان.ولعلّ ثمـة مَنْ سيقول إنّ هاتين الآيتين المذكورتين نازلتان في حقّ
الملائكة لأنّهم هم المقرّبون. فنردّ عليه بقولنا أن هذا
القرآن لم ينْزل لفائدة الملائكة بل كلّه نزلَ لفائدة الإنسان ولفائدة الجنّ كذلك.
أمّا الملائكة فإنّهم جنودُ الله المطيعون لا يعصون اللهَ ما أمرهم ويفعلون ما
يؤْمَرون. وهم لا يشاركوننا في شرع القرآن وأحْكامه ، ترغيبه وترهيبه ، تبشيره وتنذيره. فكلّ ما احتواه القرآن الكريم فهو للإنس والجانّ
مصداق قوله تعالى:﴿فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ﴾13 الرحمان. الخطاب هنا للجانّ والإنس لأجل تكذيبهما
لِنِعَمِ اللهِ لهما ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾33 الرحمان. وقد نصّت بعض الآيات على المقرّبين مِنْ عبادِ
اللهِ الصّالحين والحمد للهِ ربّ العالمين ، غير أنّه مِنَ الغريب أنّنا نرى أنّ
جلّ الناس لا يُدْرِكون كيفية العِنْديّة أيْ
عند ربّك كما جاء بالآيتين المذكورتين سابقا ، بحيث أنّ اللهَ تعالى أقْسم بذاته
العليّة التي وقع بها مَنْ كانوا عنده موْقِع قُربٍ منه لا مَن كانوا عند غيره
مِنْ أهل الشِّرك والإلحاد والعِصيان ممّن كان لهم الشّيطان ولِيًا.
- ربط اللهُ سبحانه وتعالى قَسَمه بيوم القيامة
والنّفس اللّوامة،وهذا أكبر دليل على أهميّة اللهِ تعالى واهتمامه بكلّ شيء أيْ لا وجود
لحقيرٍ عنده ولا وجود لغير وجودِ مُلكه.
- كذلك إنّ الله تعالى
أقسم بعالَم الأفلاك لإظهار عظمةِ الوَحْيِ وعظمةِ الرّسول الكريم وما على هذا
الإنسان إلاّ الاقتداء بأمْر اللهِ العظيم واتّباعه والعمل به.
كذلك أقسم اللهُ تعالى ببعض
الكواكب لتأكيدِ أمْره إلى النّاس ، بأنّه جعل عليهم
حَفظةً يُراقِبون أعمالهم التي ستُقدّم بين أيديهم يوم القيامة. فمَنْ صلحَ عملُه سعِد ، ومَنْ فسدَ عملُه شقِيَ.
- أقسم اللهُ تعالى ببلدِ الرّسول صلّى الله
عليه وسلّم كما أقسم بكلِّ والِدٍ وما ولدَ له مِنْ أولادٍ حيث أنّ هذا القسم شمل
جميع بني الإنسان ذَكرَه وأنْثاه كبيره وصغيره ، مؤمنه
وكافره ، أبْيَضه وأسْوَده ، عربِيّه وعجَمِيّه. وكان القسم تعظيمًا للبلَدِ مكّة
المكرّمة لأنّ بها بيْت اللهِ الحرام ، تكريمًا للإنسان لِمَا حوَى مِنْ سِرِّ
الألوهية الذي انْطَوَى في ذاته وصفاته البشرية. وعليكم أنْ تسعوا إلى معرفة كلّ
ذلك بأخْذ العلْم مِنْ مصادره وخاصّة العلم النّافع.
كذلك أقسم اللهُ تعالى بالضّحى واللّيل إذا سجى تسْلِيَةً وتأيِيدًا
للنّبيّ الكريم سيدنا محمد صلّى الله
عليه وسلّم ورفْعًا لشأنه وإظهارًا
لِسِرِّ برهانه ، وتسليةً ورفْعًا لشأن كلّ مَنْ كان على
منوالِه وسار على مِنهاج سِيرَتِه الشّريفة.
- كذلك أقسم الله تعالى بالتّين والزّيتون
والطّور ومكّة المكرّمة ، إنّه سبحانه وتعالى قد خلَق هذا الإنسان في أحسن تقويمٍ
أيْ على الفِطْرة ويمكنُكم مراجعة باب:‹فطرة الله › في هذا الكتاب.
فمَنْ واصلَ حياتَه على فِطْرة اللهِ كان عبْدًا لِربّه وكان مُكرّما عنده في
الدّنيا والآخرة. ومَنْ انْقطع إلى حبّ الدّنيا وشهواتها غير المشروعة وعصى أمْر
الله تعالى وتمرّدَ عليه ، ردّهُ اللهُ إلى أسْفل سافلين أيْ أخرجه مِنْ حال
الإنسانية إلى حال البهيمِيّة أو مِن مُستوى السّلام إلى حضيض الأنعام.
﴿وَالْعَادِيَاتِ
ضَبْحاً﴾1 العاديات.
-أقسم الله تعالى بالخيـول وهذا إن دلّ على شيء
فإنّما يدلّ على أنّ اللهَ سبحانه وتعالى يُريد أنْ يُعلِّمَنا الآداب مع جميع
خلْقه ، والنّظر إليهم نظرةَ تقدير وتعظيم لأنّهم خُلِقوا مِنْ مجاليه النّورانية
وبأمْره كُنْ فكان ويكون ، ولذلك أقسم بهم كما جاء بالآية الكريمة التالية:
-أقسم الله تعالى بكل ما كان وما يكون في عالَم الغيْب وعالَم الشّهادة
فنذكر:
1- القسَم بالوُجود الحقّي الذي هو الذّات العلِية جلّ شأنها وعلا سلطانها.
2- القسَم بالوُجود الخَلْقِي الذي هو العوالم الكوْنية وما احتوَتْ عليه مِنْ أجرام
مِنْ جميع أحجامها وأشكالها وأدوارها.
- إنّ القسَم اشتمل على كلِّ شيء
وعلى كلِّ كبير وصغير وكلِّ ما نشاهده مِنْ أطوارِ الوُجود وما لا نُشاهده مِنَ
الخفِيَّات كالملائكة والجانّ والهواء والأجرام التي لا تُدرَك بالبصر.
- كلُّ ما أقسم به اللهُ تعالى
إلاّ وله شأنٌ عظيمٌ ويا ليتَ الكلّ قد عرَف ذلك خاصّة
هذا القسَم الأخير الذي لم يترك شيئا لم يُقْسم به. وذلك لأمُورٍ ثلاثةٍ علينا أنْ
نُدْرِكَها لِنَتوصّل إلى إبصار حقيقة الأكوان ومعْرِفة كيفية ارتباطها
بالمُكَوِّن جلّ جلاله الذي يُشِيرُ بالآية: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ¤وَفِي السَّمَاء
رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾21-22 الذّاريات. إذا أبْصرَ الإنسان ما في نفسه فقد يُدرِكُ معنى قسم الله بالكائنات.
1- إنّ القَسمَ دلّ على تعظيم اللهِ لذاته وصفاته ومصنوعاته حتّى لا أحدَ
يظُنّ أنّ شيئا مِنَ الوُجود قد خلاَ مِنْ سِرِّ اللهِ تعالى ونورِه أو انْفصل عنه
وابتَعد منه.
2- تأيِيدُ صِدقِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يقول وفيما يُبَلّغ مِنْ أنّه
وحْيُ الله تعالى وأمْرُه إلى النّاس كافّة.
3- تنـزيهُ الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به مِنَ القرآن العظيم
والسُنّة الكريمة عمّا يأتي به غيره مِنَ الشّعر والكهانة والدّجل ونحو ذلك.
ولزيادة التّأكيد على ما نقول نأتي بالآية الكريمة التّالية:
- فلمّا جاءها موسى نُودِيَ مِنْ
قِبل اللهِ تعالى مِنْ أنّه تقَدّسَ مَنْ في النّار ومَنْ حوْلها. فمَنْ في النّار
يا تُرى ؟! قد يكون سِرُّ اللهِ العظيم الذي جعلَها تتمَيَّز بشكْلها ولونِها
ورائحتِها وفاعلِيتِها، ومَنْ حولها ؟! قد يكون سيّدنا موسى عليه السّلام
والملائكة المأمورون بالحضور. وأنّ هذه المناسبة التي قدّسها اللهُ وجعلها قَبَساً
للأفهام ونورًا للعقول والأذهان لِيَتوصّل النّاس إلى معْرفة حقيقةِ ربّ العالمين
التي تَقَدّستْ في النّار وتَقَدّستْ فيمَن حوْلها. فافهموا بارك اللهُ فيكم ما
تشير إليه الآيات الكريمة ، وانْظروا كيف أنّ اللهَ عزّ وجلّ عظّم الأشياء إلى حدّ
أنْ أقسم بها. وذلك لتأكيدِ وإثباتِ رجوعِها إليه حيث لا انْفصال لها عنه ، والكلُّ منه قَالِبُها وسِرُّها المَكنون فيها. ثم نواصل
الدّلائل على توْحيد اللهِ تعالى لِنكون على بيّنةٍ منه كما نصّت الآية الكريمة: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ﴾14 محمّد. ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾53 فصّلت.
- حتّى يتبَيَّن لنا أنّ ذلك هو
الحقُّ أيْ كلَّ ما أقسم به ، وكلّ ما بيّنه كان عظيمًا
في نظَرِه. وذلك لِيُرِينا الآيات البيِّنات الواضحات فيتدَرّج بنا شيئا فشيئا
حتّى نتوصّل إلى معرفةِ التّوحيد الخالص ، فنُوحِّده سبحانه وتعالى التّوحيد
الحقيقي المحْض لا توحيد التّقليد الوهْمي أو الخيالي الذي غالبًا ما يقع أصحابُه
في الشِّرك باللهِ تعالى ، إمّا شرْكا ظاهرًا أو خَفِيًّا والْعياذ باللهِ. فإذا
ظهر الحقُّ للنّاظرين عرَفوا قوله تعالى:
- أيْ أنّ الحقَّ هو اللهُ تعالى
لأنّه اسم مِنْ أسمائه الحسنى ، وكذلك الأوّل والآخِر
والظّاهر والباطن. فهو الأوّل في الوجود والآخِر في البعْث والظّاهر الذي ظهر في
جميع المظاهر والباطن الذي بطن في كلّ البطون. وكلّ ذلك سِرُّ نوره الأعظم المعظّم
والخلاصة: ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ﴾3 الأنعام.
- أي أنّهُ هو اللهُ تعالى في
السّماوات. وهو اللهُ تعالى في الأرض. وهو اللهُ تعالى في كلّ الوجود يظْهر
ويَبطُن في تجلِّيات وخفِيّات فضْلِه ونورِه وسِرِّه في السّماء وما حوَتْه. وهو
نفسُه الإلـه المُتجلِّي في الأرض وما حوَتْه. إذاً فلا وجود لمؤثِّرٍ غيره تمامًا
على جميع المؤثَّرات في الأرض وفي السّماوات وما بينهما، وفي الدّنيا وفي الآخرة: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ﴾88 القصص.
- أيْ أنّ المؤثَّرات تفْنَى
بأسرها في ذاتِ اللهِ تعالى ، ولا يبقى إلاّ المُؤثِّر الواجِدُ جلّ جلاله كما
تشير الآية الكريمة: ﴿مَا عِندَكُمْ
يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾96 النّحل.
إلى حدّ هنا كفاية لمن سبقت لهم العناية ، وأخذتْ
بأيديهم إلى طريق الهداية. ونسأل اللهَ التّوفيق والثّبات على الحقّ في البدايات
والنّهايات.