فالنّوع الحسّي: يتمثّل في الانتقال مِن مكان إلى آخر قصد المحافظة على
الدِّين أو نشره أو الفِرار به اجتنابا مِن الفتنة والأذى الشّديد في سبيل الله
الّذي يتعذّر احتماله: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ
رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ¤ لَيُدْخِلَنَّهُم
مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾[58-59 الحج].
والنّوع المعنوي: هو الانتقال مِن حال إلى حال،
مِن حال سيّئة إلى حال حسنة، ومِن حال حسنة إلى ما هي أحسن منها.
الجهـاد:
أمّا الجهاد بأنواعه هو أمْر له شأن ومكانة
كبيرة في الدّين ، وقد أمر الإسلام به كلٌّ حسب طاقته ، وفيه إلزام النّفس بما
تكره ، والحال أنّ فيه فوائد وصلاحًا للمعاش والمعاد ، وقال فيه المولى عزّ وجلّ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ
لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ
وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[216 البقرة]. وقال أيضًا ﴿وَمَن جَاهَدَ
فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[6 العنكبوت].
وجاء في القرآن الأمْر
بِهَجر حال الإثم والعدوان: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً﴾ [10
المزمل]﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ¤ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ
¤ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾
[3-5 المدثر].
وجاء في الحديث الشّريف:
-(أفضل الهجرة أن تـهجر السّوء)[رواه الطبراني في الكبير عن عمر بن عبسة رضي الله عنه].
-(المهاجر من هاجر ما نَهَى الله عنه)[رواه البخاري عن بن عمر رضي الله عنه].
والجهاد جهادان أصغر وأكبر:
- الجهاد الأصغر: هو محاربة العدُوّ بالعدد والعُدّة والسّلاح
، وقال فيه تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم
مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ...﴾
[60 الأنفال].
وهذا الجهاد مأمور به كلّ أفراد الأمّة القادرون،
إذًا فعلى كلّ فرد من
أفراد الأمّة الجهاد ، وقد نصّ القرآن الكريم على تأكيده
والوعيد لمن لم يقوموا به وهم قادرون: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[39 التّوبة]. ﴿إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ﴾ [15 الحجرات].
احذروا يا إخواني ! فليس الجهاد بالسّهل أن تدّعُوه ! وتقتلُوا إخوانكم المؤمنين إرضاءً لأغراض الشّيطان
الّذي هو عدوٌّ لله وعدوّكم ! وكونُوا واعين وحريصين على
التّثبّت حتّى لا تتورّطُوا في أمرٍ عُضالٍ وتكون العاقبة فيه وخيمة على الجميع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[6 الحجرات].
ولا يكون إلاّ بعد
الشّورى والاستئذان ممّن يرجع إليهم النّظر مِن وُلاّة الأُمُور وأُولِي أمرها ، يعني: السّلطان ومَن حوله مِن علماء الأمّة ومُصلحيها.
وأن يقع الإعلان عنه والدّعوة إليه
بالاستنفار وهو ما يُسمّى بالتّعبئة العامّة. ولا يكون إلاّ بتنظيم عامّ وبتضافر
الجهود فيه مثلما هو واقع في الجهاد الجماعي. ويكون الجهاد ضدّ مَن عادى أو اعتدى
ظلما على أهل الدّين الإسلامي أو على أوطانهم حتّى النّصر أو رجوع الظّالمين إلى
أمر الله. والجهاد فرض كفاية إذَا قام به البعض سقط عن الآخرين.
وليس الجهاد كما يراه البعض منّا ، هو إحداث الفتن بين أفراد الأمّة وتعمّد المسلم إلحاق
الأذى بأخيه المسلم أو قِتاله أو حبسه وحرمانه مِن حقوقه بدعوى الإصلاح ! وإنّا
نرى أنّ الخلاف نمّاهُ عدُوُّهما بينهما الّذي كلٌّ منهما يعتبره صديقًا له! وقد
حذّرهم الله منه في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ
عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً...﴾[6 فاطر]. وفي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً
وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾[118 آل عمران].
لكن مع الأسف ! وقع اتّخاذ الشّيطان وأولياء الشّيطان أولياء ، ووقعاتّخاذ
بطانة للمؤمنين مِن دونِهم ، أي مِن غير المؤمنين الصّادقين.
ولا ننسَ قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم
في هذا الشّأن: (ما
من مُسلمَيْن التقيا بأسْيافِهِما إلاّ كان القاتل والمقتول في النّار)[سنن ابن ماجه].
فما هو هذا الجهاد إذًا ؟ أليس الجهاد المطلوب هو ما
بيّنه الكتاب والسُنّة ؟ راجع أيّها المجاهد أمْرَكَ
وركّزهُ على شرع الله ، فالجهاد إنّما يكون في سبيل الله
ولِتكون كلمة الله هي العُليا ، وإن كان في سبيل غيره سُمّي حربًا وقتالاً
وتقتيلاً،
لا شهادة ولا شهيدًا!
لأنّ الشّهيد مأواه الجنّة، ولا يكون الجهاد إلاّ لحقّ ارتضاهُ
الله وأمر بالدّفاع عنه.
وإنّي أخشى أشدّ الخشية أن يتقابل المسلمان
فيتقاتلا ويكونا الاثنين في النّار والعياذ بالله كما نصّ الحديث أعلاه!
أيّها المؤمنون ! أئِنّكم تنظُرون إلى
إخوانكم كيف يتقاتلون في أنحاء العالَم وأنتم صامتون !
كأنّكم لا تعلمون ولا تدرون ، أو كأنّكم ترغبون في الفِتنة وتُغذُّونَها
!
الرّجاء أن تُصلحُوا بسرعة بينهم
، حتّى لا تنتشر العداوة والفِتنة وتتوسّع وتشمل مؤمنين آخرين ، وتجنّدُوا
كلّكم ضدّ الفِئة الباغية الظالمة حتّى ترجع إلى أمر الله. لكن واللهِ ما رأيناكم
تجنّدتم بجميع قواكم إلاّ لفائدة الفئة الطّاغية لقهر الفئة الضّعيفة صاحبة الحقّ.
واعلمُوا يقينا أنّ القائمين بالجهاد إذا لم
يقوموا بأركان الإسلام ولم يُلزموا على أنفسهم الطّاعة وخاصّة الصّلاة فمَن مات
منهم مقتولا كان موتُه عليه وِزْرًا لا خير فيه. وأمّا إذا كان المجاهد ملتزمًا
بأحكام الله ، ذاكرًا لله ، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾[45 الأنفال]. فإذا قُتل المجاهد
في هذه الحـال صار شهيدًا ، فطُوبى له بهذا المقام.
- أمّا الجهاد الأكبر:فصَدَق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي قال فيه: (قدِمْتُم خير مقدم ، وقدِمْتُم مِن الجهاد الأصغر إلى الجهاد
الأكبر ، مجاهدة العبد لِهوَاه)[رواه الخطيب عن جابر
رضي الله عنه]. فيا له مِن جهاد ! ويا له مِن شأن
عظيم عند الله تعالى!...
- وهذا الجهاد ينقسم إلى قِسمين:
1- الجهاد في سبيل الله.
2-
الجهــادفي الله.
قال تعالى في القِسم الأوّل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾[72 الأنفال]. الآية تشمل كلّ الأعمال الظّاهرة المتعلّقة بالجوارح.
أمّا الجهاد في الله القسم الثّاني : فهو
مجاهدة النّفس وحملها على القيام بأعمال الطّاعات وعلى هجر السّوء وترك المعاصي ،
لترويضها ودفعها إلى الاطمئنان لتُخاطَب مِن طرف الحقّ جلّ وعلا: ﴿يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ¤ ارْجِعِي إِلَى
رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ¤ فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي ¤ وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[27-30 الفجر].
فالرّجوع إلى الله لا يكون إلاّ بعد المجاهدة
لتطهير النّفس مِن كلّ الشّوائب ، فبذلك تكون النّفس عن الله راضية وله مرضيّة
وواصلة ومُتّصلة بصفائها مِن جميع الأكـدار.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا
الجهاد عن أبي ذرّ رضي الله عنه: (أفضل الجهاد أن تُجاهد نفسكَ وهواكَ في ذات الله)[رواه الديلمي]. فهذه المرحلة من الجهاد صعبة ودقيقة جدًّا ولا يقوم بها
ويتحمّلها إلاّ مَن نصّت عليهم هذه الآية: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[35 فصلت].
وفيما يلي إيضاحات
وفوارق للمُقارنة بين الجهـاديْن الأصغر والأكبر:
الجهـاد
الأصغـر
الجهـاد
الأكبـر
هـذا منفصل خارج
عنكَ
«=»
وهـذا متّصل كامِـن
فيكَ
هــذا حسّي
«=»
وهذا معنـويّ
العدوّ ظاهر تشعر
بلذّة قتـله
«=»
والعدوّ كامن تشعر
بمرارة مجاهدته
الحرب قد تنـتهي
«=»
والحرب لا تنتـهي
العدوّ يُصـالح أو
يُهـادن
«=»
والعدوّ لا يُصالح
ولا يُهـادن
إذا قتلك العدوّ
تدخل الجنّة
«=»
وإذا قتلك العدوّ
تدخل النّار
قال الله تعالى في القِسم
الثّاني أي الجهـاد في الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ¤ وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ
فاحذرُوا بارك الله فيكم أن تتقاتلُوا فيما
بينكم بأيّ عنوان مِن عناوين الفِتن بسبب حبّ الدّنيا والرّئاسة فيها، وتعتبرون
ذلك حربًا شرعيةً !! لا، لا! بل هو خطْئ كبير ومَدْعاة إلى غضب الله وسخطه. لو
كنتم كلّكم تمسّكتم وعملتم بأمر الكتاب والسنّة لانْتفتْ عنكم الخلافات وابتعدت
عنكم النّزاعات، لكنّكم اختلفتم عن الواقع الّذي خلقكم الله مِن أجله، وأصبحتم
بذلك أحزابا متعدّدة المشارب بدلَ أن كنتم حزبَ الله الواحد المؤيَّد، ويرجع ذلك
إلى تنصُّلكم منه وابتعادكم عنه بسبب إهمال الثّقافة الإسلامية العريقة والتّمسّك
بثقافات عصرية أجنبية واهية لا خير فيها.
فهلمّ أيّها النّاس جميعًا إلى الجهاد الأكبر
الّذي تغافلنا عنه،
حتّى أنّ منّا مَن يموت في الحرب وما صام وما صلّى ! إنّ الجهاد أعني الأكبر: هو
عين النّصر وعين الرّحمة وعين الإخاء والتّسامح والعدل. فالجهاد بنوْعيْه مكتوبٌ
على الأمّة. وهو المِحور الّذي ترتكز عليه دعائم الأمّة من محبّة وأُخوّة ومودّة
وإيثار وأمن وسلام وترابط.
فالّذين جاهدُوا في
الله: كانت رغبتُهم فيه به إليه، وكان انكبابُهم على طاعته إتّباعًا لملّة
إبراهيم. يا له مِن أمْر بليغ يُؤدّي إلى مقام رفيع وربّما أرفع ، وهو مقام
الخلّـة. والمقام البليغ يكون بالمحبّة الّتي تحصل للعبد مِن ربّه بعد هدايته
لسُبُل القرب والاجتباء ، كالاشتغال بالذِّكر إلى درجة العِشق فعند ذلك يُرفع الحجاب
فتتمّ المحبّة قبل النّظر، وبعد ذلك يصحّ قول الله في عبده: "صرتُ له سمعًا
وبصرًا ويدًا ورجْلاً.." أرأيتم شأن هذا المقام البليغ الّذي هو منه سبحانه
وتعالى إلينا ! الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
إذًا فلنسارع إلى الله ،
ولنعمل صالحًا ولنَتنَاصح بذلك ، لنكون في مستوى ما
أعدّ الله لعباده الصّالحين ، ولنَسْتجِب لقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ
تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾[19 المزمل]. فابحثُوا عن صاحب السّبيل الّذي هو الإمام الربّاني الّذي
يأخذُ بأيديكم إلى الله، مالكم جهلتموه وحتّى إن علمتم به زهدتموه. واجتنبوا هول يوم ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا
حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن
كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ [56
الزمر]. نعم !والله لا أُريد أن أخفي عليكم
مِن أنّ إمام الطّريق هو "جنب الله" والله يقول في هذا الشّأن: ﴿قُلْ كُلٌّ
مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ
وَمَنِ اهْتَدَى﴾[135 طه].
ثمّ عند أخذ الطّريق تتّضح الدّعوة إلى الله
للقُرب منه: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ
لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾[67 الحج].
وقد علمنا مستوى الجهاد في سبيل الله ، وكذلك لكلِّ دعوة إلى سبيل الله مستوى عظيما ، والدّعوة
إلى الله أعظم. وقال فيها سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ﴾[33 فصّلت].
لأنّ الدّعوة إلى الله تجعل المجتمعات
مُترابطة ومُتناسقة ومُتساوية بما سطّر الله لها مِن أحكام عامّة وخاصّة. وبذلك
تكون الأعمال ونتائجها صالحة ونافعة للجميع.
والقول: "إنّني
من المسلمين" لإقراره بإسلامه وأمْره إلى الله. إذًا ، فلنكفّ عن القتال فيما
بيننا ، ولندع الحروب ، ولنترك التّبعات والتّعبـئات
العسكريّة ضدّ بعضنا، وكفانـا دمارًا ، إذ لا عدُوّ حقيقيّ بيننا إلاّ الشّيطان ،
فعلينا أن نتجنّب أعماله الخبيثة، ونلتزم شرع الله لنكون إخوانًا حقًّا.
التّضحيـة:
التّضحية: هي كلمة معناها: المجاهدة
والمكابدة والمعاناة بُغية تحقيق أهداففي نطاق الشّرعيّة الرّبانيّة أوالشّرعيّة الإنسانيّة.وتنحصر التّضحية في عنصريْن:
1- التّضحيةبالنّفس.
2- التّضحية بالمـال.
وهما أهمّ وأفضل وأعظم تضحية أرادها الله
تعالى للنّاس ، كما جاء بمُحكم التّنْزيل العزيز: ﴿انْفِرُواْ خِفَافاً
وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[41 التّوبة].
وتكون التّضحية في جميع الميادين:
ويعتمد على المجاهدة
الفرديّة والجماعيّة لمقاومة النّفس هوًى وشُرورًا وطغيانًا، حتّى لا يُترك لها مجال للظّلم
والاعتداء والنّهب والاستيلاء والحسد والرّياء والأنانيّة والغُرور وما إلى ذلك
ممّا هو غير مستحسن ، وحتّى تدفع المجاهدة النّفسَ إلى الطّاعة والحياء والمحبّة
والإخاء والنّصيحة والوفاء والإخلاص والوَلاء...
إذًا ، فعلى الوُلاّة والعلماء المصلحين
والدُّعاة السّياسيّين والأدباء والقُضاة العادلين ووسائل الإعلام بأنواعها ،
الاهتمام بالقيام بكلّ ما لديهم مِن إمكانيّات وأدوار لتوجيه الأمّة حتّى تضطلع
بهذا الفرض العظيم الّذي هو الجهاد الأكبر ، وحتّى الجهاد الأصغر الّذي به تتناسق
وتترابط الصِّلات الدّاخليّة بين أفراد الأُمّة ، وتتقوّى لُحمتها. ولنحذر مِن
إهماله وعدم القيام به لأنّ إهماله يُؤدّي بنا إلى الخلافات وظهور الطُّمُوحات
الشّخصيّة المختلفة وتبديد أواصر الأخوّة ونشر العداوة إلى أن يبلغ الأمر ما لا
يُحمد عقباه كما تروْن الأحوال السّيّئة الّتي أنتم عليها في زمانكم هذا.
وقدكُتب الجهاد على الفرد منّا حتّى العَجْز أو الموت، وعلى الأُمّة حتّى قِيام السّاعة. واعلموا أنّ
الغزْو علينا اليوم قد تغيّر معناه وكيفيّته عن ذي قبل ، بحيث أصبح الغزو له
أوْجُهٌ عديدة: كالغزْو الثّقافي ، والغزْو الاقتصادي ، والغزْو الصّناعي، والغزْو الفكري ، والغزْو العسكري وبتأثير هذه الغزوات كلّها
قد ضاع منّا ديننا وأُهمِل العمل به...
إنّ الجهـاد فُرِض علينا لأهمّيته الّتي
يترتّب عنها تعاون الأمّة وقُوَّتُها ومناعتها وازدهارها ، بحُكم أنّ كلّ فرد يرى
مصلحته عين مصلحة الآخرين ، وحياته عين حياة الآخرين ، وموته أفضل مِن موت الآخرين
يرغب فيها لإحدى الحُسْنَييْن إمّا النّصر على الأعداء أو الموت استشهادا في سبيل
الله. فيكون مِن حينه مُتمتّعًا بالجنّة وبما أعدّ الله له فيها ممّا لا عين رأت
ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولستُ بقصدي هذا أَنْهى عن القيام بالجهاد الأصغر ، ولكنّي أُوصي أن يكون على قواعده ، حتّى لا تضيع
الجهود بلا نتائج ، فهل مَن مات كما ذكرنا بدعوى أنّه مجاهد في سبيل الله والحال
أنّه تارك للصّلاة والصّيام ويتعاطى مُحرّمات ! أهذا له جهاد ؟
ويقولون له شهيد !! وعلى كلّ حالٍ إليكم قولا مِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
في هذا الشّأن: (أوّل
النّاس يدخل النّار يوم القيامة ثلاث نفر يُؤتى بالرّجل فيقول: ربّ علّمتني الكتاب
فقرأتُه آناء اللّيل والنّهار رجاء ثوابك ، فيُقال كذبتَ إنّما كنتَ تُصلّي
لِـيُقال إنّك قارئ يُصلّي وقد قيل ، اذهبوا به إلى النّار ، ثمّ يُؤتى بآخر فيقول:رزقتنِي مالاً فوصلتُ به الرّحم وتصدّقتُ به على
المساكين وحملتُ ابن السّبيل رجاء ثوابك وجنّتكَ ، فيُقال كذبتَ إنّما كنتَ تتصدّق
وتصل الرّحِم ليُقال إنّه سمحٌجواد ، وقد
قيل ، اذهبوا به إلى النّار ، ثمّ يُؤتى بالثّالث فيقول: ربّ خرجتُ في سبيلكَ
فقاتلتُ فيكَ حتّى قُتلتُ مُقبلاً غير مُدبر رجاء ثوابك وجنّتكَ ، فيُقال كذبتَ
إنّما كنتَ تقاتل ليُقال إنّك جريء شجاع وقد قيل ، اذهبوا به إلى النّار)[رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه].
وكذلك فإنّ قصدي أن نتفهّم قيمة الأخوّة في الله ،فإن لم تكن فقيمة الأخوّة الإيمانية، فإن لم تكن فقيمة
الأخوّة الإسلامية، فإن لم تكن فقيمة الأخوة الآدمية البشرية. وأن لا نتقاتل ولا
نتعادى فيما بيننا لأيّ سبب مِن الأسباب لأنّ الحلول متوفّرة ، فلو رجعنا كلّنا
إلى الله وصالحنا أمرنا معه لَصَلُحت كلّ الأمور بيننا وانتهت المشاكل والخلافات ،
ولعادت الأمور إلى مجراها الطّبيعي بتصالح جميع الأطراف
على الحقّ وبالحقّ المشروع ربّانيًّا.
أمّا إذا لم يقع الرّجوع إلى الله أمرًا
ونَهْيًا ومحبّة ، ووقع التّمادي على الحالـة الّتي عليها النّاس اليوم مِن
مُعاداة لدين الإسلام ومُحاربته حتّى مِن طرف المسلمين أنفسهم بطريقة مباشرة وغير
مباشرة ، فإنّ الله قادر على نصر دِينه وأهله ،وإنّه
غنيٌّعن العالمين طائعهم وعاصيهم. وقد
بيّن لهم الحقّ في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ ¤ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ¤
وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ
هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [54-56 المائدة].
ونلاحظ أنّ التّضحية المشروعة لا تكون إلاّ
لستّة موجبات تدفع الإنسان إلى الدّفاع ولو أدّى به الأمر إلى الموت في سبيل ذلك
وهي:
الدِّينيّة
والاجتماعية والاقتصادية والفلاحيّة والصّناعيّة والتّجاريّة والمدنيّة والعسكريّة
ونحو ذلك.
فإن كانت التّضحية
دُنيويّة فهي لفائدة الفرد أو المجتمع المضحَّى مِن أجله وتكون التّضحية فرديّة أو
جماعيّة، جهويّة أو قوميّة ، إقليمية أو عالميّة.
وتُذكّرنا كلمة:
"التّضحية" بعيد الأضحى المبارك وتاريخه وأسبابه ومسبّباته وعناصره.
فتاريخه يرجع إلى عهد سيّدنا إبراهيم عليه
الصّلاة والسّلام الّذي نال مِن ربّه أعظم رُتبة ، وهي الخلّة ، ولذلك سُمّيَ
خليلاً. ومقام الخلّة هذا يكون حال الخليل في فناء معنوي محض عن الصّفات البشريّة
قائمًا بالله في جميع أحواله ، معناه: لا يرى لنفسه مِن وجود ولا عمل مصداق قوله
تعـالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾[26 الرّحمان]. فشَاهد الفناء
ورأى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ﴾[96 الصّافّات]. فعرف أنّ القيام يرجع إلى الله الصّمد الحيّ القيّوم الّذي
عليه الاتّكال وإليه المآل ومنه الجمال والكمال.
وقد قال سيّدنا ومولانا محمّد رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم: (أدّبني
ربّي فأحسن تأديـبـي)[لابن
السمعاني في أدب الإملاء عن بن مسعود رضي الله عنه].
ولكلّ رسول ونبيّ نصيب مِن هذا الأدب. وعناصر الأدب المشار إليها تكون: التّوكّل
على الله ، والخوف والرّجاء فيه ، والصّبر به ، والتّسليم والتّفويض إليه ،
والرّضا بأمره، والشّكر على نعمه ، والتّوبة إليه ، والزّهد فيما سواه ، والمحبّة
له، والصّدق معه ، والإخلاص إليه ، ونحو ذلك.
فسيّدنا إبراهيم هذا كان أُمّةً قانتًـا لله
حنيفًا ، ولم يكُن مِن المشركين ، وهو كذلك صاحب المِلّة وهي: المذهب ، أو نقول
الطّريقة ، وهو الّذي وفّى بما عُهد إليه مِن الله ، فكان المثل الأعلى في ذلك ،
حتّى قال الله مدحًا فيه: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي
وَفَّى﴾ [37 النّجم]. وفَّى بحمله الأمانة على المستوى المرسوم والمطلوب
للرُّبوبيّة كما جاء بالآية: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾[124 البقرة].
وفعلاً وفَّى بعهد الله فوفَّى الله له ،
وجعله إمامًا ، وكان لا ينجب أولادًا مِن السّيدة سارّة زوجته ، ثمّ إنّها عرضت
عليه أن يتزوّج الجارية هاجر ، الّتي هداها له حاكم مِصر لعلّها تنجب ما تقرّ به
أعينهم ، وذلك عندما هاجر إلى مصر هو وزوجته سارّة ، وفعْلاً تمّ ذلك وولدت له
الجارية سيّدنا إسماعيل الولد الأوّل ، عند ذلك مال قلب سيّدنا إبراهيم له على ما
قيل ، وكانت عناية الله بإبراهيم عظيمة ، وأرادت أنْ يكون الخليل لله وحده ، ولا
يكون لغيره ولو نسبيًّا ، فامتحنهُ الله تعالى بامتحان صعب بعدما ألقي به في
النّار ، ولم يستنجد بأحد ، فكانت نتيجة الفِتنة أنّ النّار كانت عليه برْدًا
وسلامًا بأمر الله كما جاء بقوله تعالى: ﴿قُلْنَا
يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾[69 الأنبياء]. قلنا: ثمّ امتحنه الله بامتحان صعب ، أصعب مِن الّذي ذُكر ،
وهذه المرّة يتمثّل في نقل سيّدنا إسماعيل مع أمّه وهو رضيع إلى أرض مكّة وتركهما
هُناك في خلاء لا أُناس ولا رزق ولا ماء فيه... ما أعظم هذه الطّاعة.. وهذا
التّوكّل والتّسليم إلى الله.. والتّفويض إليه.. حيث قال: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾[37 إبراهيم].
تأمّل قوله تعالى: "فلمّا أسلما"
فهذا إبراهيم أسلم رضًا لذبح ابنه كما قال له ربّه: أسلِمْ في موقع آخر ، قال:
أسلمتُ لربّ العالمين ، وهذا ابنه إسماعيل أسلم رضًا بذبحه إرضاءً لأبيه
ولربّه.نعم ، أسلَمَا الاثنان ، ورَضيا
بحُكم الله وقَبِلاهُ: الذّابح والمذبوح ، يا له مِن بـلاء عظيم...!
لو حكّمنا ظاهر الشّرع لاتّهمنا سيّدنا
إبراهيم بأنّه مُختلّ العقل أو اعتـراهُ جنون ! وحاشاه مِن ذلك ، فعقلُه بالله
أنْور العقول. وللشّرع كذلك بُطون في الظّهور ، وأمْرُ الله أو نَهْيُه هو عين
الشّرع ، وإن خالف ما تراهُ العقول الكليلة الّتي لها حدّ في إدراك ما يتعلّق
بأمور الطّبيعة الظّاهرة. والصّالحون أولياء الله لا يرتبطون بمُجرّد ما يُسمَّى طبيعة
، بل قد خرق الله لهم الحُجب لماّ خرقُوا عادات أنفسهم.
فهذه التّضحية الحقيقيّة لطاعة الله وإرضائه ،
تسببّت في سُنّة عيـد الأضحى المبارك، بحيث كما جاء في الآية الكريمة فقد فدى الله
سيّدنا إسماعيل عليه الصّلاة والسّلام بذِبحٍ عظيم وهو الّذي صار سُنَّةً في كلّ
عام لكلّ إبراهيميٍّ ، بل بالأحرى لكلّ من اتّبع ملّة إبراهيم: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ
بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾[68 آل عمران]. وهذا النّبيّ محمّد والّذين آمنوا أوْلَى بإبراهيم ، وهُم
كالّذين اتّبعوه. والمقصود مِن كليْهما: أنّنا جميعًا تبعًا لمِلّة إبراهيم عليه
السّلام.
والذّبيح مِن ابني إبراهيم عليهم السّلام هو
إسماعيل الّذي بلغ معه السّعي والّذي عاش بمَكّة ، وتدلّ
الآيات المذكورة على ذلك:
بحيث أنّ الله تعالى بشَّر إبراهيم بإسحاق
نبيًّا مِن الصّالحين بعد عمليّة الذّبح والفداء لابنه إسماعيل ، ممّا يدلّ على
أنّ الابن الأكبر لإبراهيم والذّبيح هو إسماعيل عليهم جميعًا السّلام ، مع أنّ
شعائر عمليّة الذّبح كلّها بمَكّة أين كان يُقيم إسماعيل ، وهي شعائر الحجّ حيث
تُقام كلّ سنة إلى قيام السّاعة. إذًا فدَعْوى أنّ الذّبيح بمقتضى الرّؤيا هو
إسحاق باطلة لا نصيب لها مِن الصّحة تمامًا ، والقرآن الكريم أكّد لنا ذلك بكلّ
وضوح.
المغزى مِن البلايا الشّديدة هي:
1- النّجاة مِن النّار رغم الوقوع فيها.
2- النّجاة مِن الذّبح رغم الشّروع فيه ، والفداء بذِبح عظيم في
حال الطّاعة لله عزّ وجلّ بحيث تبدّل بسرعة السّيِّئات حسنات مصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً﴾[6 الشّرح]. وغالبا ما يكون هذا
حالٌ لكلّ تابع وسالك على المِلّة الإبراهيميّة.
وحِكْمة الله مع
أوليائه الصّالحين ظاهرها عذاب وباطنها رحمة.
يا سعد كلّ تابـعٍ لطريق الله بصبر وتفويض
وتسليم... وهنا نلتفت قليلا لنرى اختلاف أحوال عامّة المؤمنين الّذين منهم مَن
يريد الفرار مِن القضاء والقَدَر ! ولا يرضى أحدهم أن
يُرمى في النّار مِن أجل حقّ لله ؟ أم يَذبح ابنه
تنفيذًا لأمر الله وإرضاءً له ؟ لن يكون منهم أبدًا...
أمّا خاصّتهم الأولياء فإنّهم يرضون بكلّ ما
أمَر به الله تعالى ونَهى عنه ، ويرضون بكلّ حُكْم منه عليهم ، وواثقون مِن أنّ
الله لا يظلم النّاس شيئًا وزِمام الحُكْم والعدل بيده عزّ وجلّ.
ولنضرب مثلاً بسيطًا فيما ذكرناهُ: لو أنّ
قائدًا كلّف جنديًّا ليقُوم بتضحية خطيرة وقاسية ، وقام بها هذا الجنديّ ، لكان
جزاؤه أفضل الجزاء مِن مكافآت التّرقية والمِنَح والمحاباة ، فما بالك يا أخي بمن
هو أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين الّذي وسِعت رحمته جميع عباده وخاصّة منهم
المقرّبين لا يُطاع اليوم؟! بل يُتجرّأ عليه بالمعاصي جهرة وبرغبة دون اضطرار ،
ولذلك قال الله تعالى: ﴿مَّا يَفْعَلُ اللّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾[147 النّساء].
فالشّكر على النِّعَم والإيمان والتّصديق بما
أمر الله به وحَكَم ،فبذلك يرقى المرء إلى أعلى القِمَم ، حيث تتعلّق الهِمم بما وراء العرش
والقلم ، فطُوبى لمن هذا مقامه أو حتّى مَن كان يهفُو إليه ، فأيّ نار يخشاها ،
وأيّ ذبح يرهبهُ ؟ بل الكلّ هيّن عليه.
وقد تكون النّار هي إشارة إلى نار الفِتنة ، لأنّ لكلّ مؤمن فِتنة حسب مستواه الدِّيني.
وقد يكون الذّبح إشارة إلى التّخلّي عن
الأنانيّة والقضاء عليها قضاءً كلّيًا فلا أحد غنيٌّ غير الله ، ولا أحد قويٌّ غير
الله ، ولا أحد قادر غير الله...
وبهذه المناسبة نقولللخاصّة ولغيرهم عامّة ممّن أنكروا ما
ذكرناه:عليكم
بمراجعة كتابين صدرا في النّصفالأوّل مِن القرن العشرين ميلادي بقلم
الأستـاذ المربّي الشّهير والصّوفي الكبير الشّيخ: أحمد بن مصطفى العلوي المستغانمي الجزائري.