منذ سنوات قليلة مضت حاولتُ أن أشرح الآيات القرآنيّة ،
وقد بدأتُ ببعض سطور وسور ، لكنّ الخوف منعني من القيا م
بذلك بسبب ضعفي العلمي لأنّي ما كنت زاولت التّعليم بالمعاهد الثّانوية ولا
بالجامعات وليس لديّ ما يُعتمَد عليه مِن شهادات. فخشيت أن أُقدّم معلومات قد تكون
ناقصة أو غير كافية فعدلتُ عن ذلك إلى أنْ بعثَ الله في روْعي روح العزيمة القويّة
للإقدام على أفضل وأصعب ما يكون لتوْطِئته إلى القرّاء الكرام الرّاغبين في
المحافظة على دين الإسلام قصد الإفادة والاستفادة في كلّ وقت وحين مِن العمل
بمبادئه القيّمة الربّانية المفروضة على كلّ عناصر الإنسانية والجِنِّية. والحمد
لله تعالى الّذي هدانا لهذا ويسّره لنا بفضل إمداداته المتتالية مِن هبات ربّانيّة
وفيوضات رحمـٰٰنيّة. ونسأله
أن يكون لنا بلطفه ويُساعدنا بعونه وتوفيقه.
كلّما عَرف أحدٌ أنّي شرعتُ في شرح القرآن الكريم
إلاّ وصعّبه عليّ وذلك لما يظهر عليه مِن إعجاب واستغراب و مَا ينطق به لسانه ،
وهذا قد يؤثّر نسبيّا على إضعاف المعنويّات وتعطيل عروج الِهمَم إلى ما وراء العرش
بطريقة أو بأخرى لأشعرَ أنّي لست من أهل هذا الميدان فأتخلّى عن إنجاز هذا المشروع
العظيم. والله أعلم أكان ذلك عن حُسن نيّة منهم أو عن غيرها. إذ أنّهم نظروا إليّ
مِن منظار ضعف ثقافتي وعدم وفرة شهادات ممّا يُفقد حتمًا كفاءتي حسب رأيهم. وإنّهم
لم ينظروا إليّ مِن الطّريقة الّتي ألهمني الله إيّاها بكلّ سهولة والّتي لا تُعرف
إلا بمنظار أقوال الحقّ وأذونه جلّ جلاله كالآتي ذكرها:
أ-
﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ [269
البقرة].
إنّ أُولِي الألباب هم الّذين يعرفون أنّ الله يؤتي الحِكمة من يشاء بمقتضى إرادته
المتعلّقة بأمْره "كُنْ" ، وليس لها شروط مِن حيث كثْرة العلم أو
العبادة أو العمل الصّالح أو الثّقافة أو المال أو العمر أو الجنس أو الزّمان أو
المكان بل هي خوارق عادات إلـٰهية لا تخضع إلاّ لأمْره سبحانه وتعالى الّذي إذا
أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. زيادة على أنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء كما
يؤْخذ ذلك مِن قوله تعالى:
ب- ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ
وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ¤ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ﴾ [73-74
آل عمران].
نعم ، إنّ الله سبحانه وتعالى إذا اختصّ عبدا مِن عباده برحمته فضّله بالعِلم
النّافع حتى يستعمله ، وورّثه علمَ ما لم يكن يعلم. أمّا التّفضيل بالمادّيات دون
علم فهو نافع لا محالة غير أنّ نفعه ينتهي ويزول في وقت ما.
ت- ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [282
البقرة].
إنّ تقوى الله عزّ وجلّ هي فتحُ باب عناية الله بالْمُتّقي. وإنّ مَن كانوا قد
اتّقَوا الله فقد أصبح هو مُعلِّمهم. ومادام معلّمهم اللهُ تعالى فقد صاروا علماء
بالله الّذي لا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السّماء. ويمكن أن نقول أنّ هؤلاء هم
العلماء حقاًًّ ولا فخر ، ونسأل الله أن يجمعنا بهم بل يجعلنا منهم إنّه على كلّ
شيء قدير وبالإجابة جدير ، وإنّهم أوْلَى النّاس العاملين بقوله تعالى الّذين حُقّ
لهم الأمْر بالمعروف والنّهي عن المنكر:
ث- ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [94 الحجر]. وكذلك
قد منّ الله تعالى على الأمّة بتيْسِير القرآن غير أنّه لا يكون ذلك إلاّ لمن
اعتبر ورغِب في الاتّعاظ للعمل به كما جاء بقوله تعالى:
ج- ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [17
القمر]. مع
تكرار هذه الآية كم مرّة في نفس السّورة وذلك للتّرغيب في القرآن مع تأكيد تيسيره
للمُدّكرين أيْ المتّعظين. إنّ الّذين يقولون بصعوبته ويُشدّدون ويُحذّرون
الرّاغبين في قراءته دون أن يكونوا حافظيه عن ظهر قلب ويمنعون تدبُّره وتفسيره
للوصول إلى فهمه بزعم أنّه لا يجوز ، ومُحرّم عليهم فِعل ذلك فكأنّ هؤلاء لا يعلمون قوله صلّى الله
عليه وسلّم عن عائشة رضي الله عنها: (الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والّذي
يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران) [رواه
البيهقي]. فلا
شكّ
أنّ أصحاب رأْي هذا التّحريم والحرمان هم مُتعصّبون أو جاهلون
أو مُتأثِّرون بالإسرائيليات وبما اختلَقه المنافقون مِن أكاذيب وأراجيف. ونخشى لا
قدّر الله أن يكونوا مِنْهم فيتسبّبوا في حرمان النّاس من الاستفادة ممّا جاء بكتاب
الله من نِعم وأفضال كما جاء بقوله تعالى:
ح- ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [5
القصص]
"ونريد
أن نمنّ" معناها أن نُعطي الخير الكثير دون مقابل للّذين استُضعفوا بَدنيًّا
أو ماليًّا أو علميًّا وهم الّذين تواضعوا وافتقروا إلى اللّه واعتقدوا أنّه لا
حول ولا قوّة لهم إلاّ بالعليّ العظيم جلّ جلاله. "ونجعلَهم أئمّة"
للناّس فذلك لشدّة تأدُّبهم مع الله ومصافاتهم له واحترامهم لأحكامه وحسن المعاملة
مع جميع خلقه. "ونجعلهم الوارثين" فأيّ وراثة تفهمونَها ؟ أهي وراثة
السّلطان أم هي وراثة الأموال ؟ أهي وراثة العقارات أم هي وراثةٌ في كثرة حشْوِ
المعلومات وأنواع الثّقافات وكثرة الشّهادات؟ كلاّ!!
بل هي وراثة علوم لَدُنّية كما جاء بقوله صلّى الله عليه وسلّم: (العلم
علمان: فعلم في القلب فذلك العلم النّافع، وعلم على اللّسان فذلك حجّة الله على
ابن آدم) [سنن
الدرامي عن الحسن].
وبقوله
صلّى الله عليه وسلّم: (مَن
عمل بِما عَلِم ورّثه الله عِلم ما لم يعلم، ووفّقه فيما يعمل حتّى يستوجب الجنّة،
ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يُوفّق فيما يعمل حتّى يستوجب النّار) [رواه
أبو نعيم في الحلية من حديث أنس رضي الله عنه].
إنّ
الوراثة النّبوية العلمية الشّرعية منها والحقيقية اللّدنية النّافعة الّتي نال
منها الرّجال أئمّتنا الأحرار أجدادنا الكبار أمثال سادتنا عليّ بن أبي طالب وأبو
الحسن الشاذلي وأمثالهما رضي الله عنهم الّذين استمدوها من العليم الخبير إذ
أخبرهم بِها عن طريق الإلهام وبذلك بلغوا ذروة المجد من الكمال الإنساني وأصبحوا
أئمّة أعلاما لأنّهم اقتدوا بسيّد الأنام عليه أفضل الصّلاة وأزكى السّلام. ولماذا
قدّمتُ عليًّا بن أبي طالب بالذّكر هنا ؟ لأنّ كلّ النّاس يعرفونه إمامًا ولا أحد
يُنكر ذلك. وبالله عليكم هؤلاء العلماء وأمثالهم في أيّ جامعة أو كلّية زاولوا
تعليمهم ؟ وفي أيّ مادّة اختصّوا ؟ وأيّ شهادة مُكِّنوا منها غير شهادة أن لا
إلـٰه إلاّ الله ومعرفة حقيقتها ﴿شَهِدَ
اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ
قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [18
آل عمران]،
والطّاعة والحبّ لله تعالى وللرّسول صلّى الله عليه وسلّم ؟ ولنضرب مثلا
بأحد هؤلاء الرّجال الشيخ الكبير والعالم النحرير سيدنا أحمد بن مصطفى العلاوي
المستغانمي صاحب الطريقة إلى الحقيقة في زمانه غير البعيد ، الّذي جاء في تاريخ
حياته ما نصّه كالآتي:
قال
رضي الله عنه: " أمّا صناعة الكتابة فلم نتعاطاها ، ولا دخلتُ الكتّاب ولو
يوما واحدا ، إلاّ ما استفدته مِن أبي رحمة الله عليه ، عندما كان يُلقي عليّ بعض
دروس قرآنية بدارنا ، وإلى الآن لم نحصل على القدر الكافي منها ،
وانتهى
بي الحفظ في كتاب الله إلى سورة "الرّحمٰن"، فبقي اللوح على تلك
السورة".
- ورغم ذلك فقد ألّف رضي الله عنه مجموعة من الكتب العلمية الموهوبة أخصّ بالذّكر
منها: تفسير القرآن الكريم تحت عنوان:
البحر المسجور
في تفسير القرآن بمحض النور
هذا
التّراث الإسلامي العظيم ينتفع به من أراد البحث عنه وأخَذه من معادنه. ومن رغب في
الاطّلاع على علومه فعليه بموقع "أحباب الشيخ أحمد العلاوي" على
الإنترنيت تحت هذا الرابط: (http://www.alalawi.1934.free.fr)
وحيث أنّنا
أحفادٌ روحيّون لهؤلاء الأسلاف السابقين ولا نكون
إلاّ مثلهم إن شاء الله ربّ العالمين لأنّ المثل يقول "الولد نسخة عن
أبيه".
ويا
للأسف
نرى اليوم أنّ الكثير والكثير مِمّن هم مسلمون أصالة ولكنّهم تأثّروا بالثّقافات
الغربية وحضارتها الدّاعية إلى التّملُّص مِن الدّين الإسلامي وأحكامه وآدابه
وعدالته قد مكروا على هذا الدّين وأهله وحاصروه وجعلوه في
شِباك تتغيّر
بمقتضى
الزّمن. فمرّة يُنسب
إلى
أهل الدّين التّخلُّف وأُخرى التّطرف أوْ الإرهاب وذلك لئلاّ يعتنقه أحد بعد ذلك
ويبقى مُحافظًا عليه متمسّكا به. وأصبح بذلك أهل الدّين دون استثناء علماء
ومتعلّمين ودعاة وعابدين تحت قيود شديدة تمنعهم مِن ممارسة طقوسهم الدّينية
وحقوقهم المدنية. وهذا يرجع إلى عقود مضت حدث فيها اختلاف بين العلمانيّين
المتمسّكين بنظام الحكم وبين أقليّة ممّن يُنتسبون إلى طوائف دينية لعلّها تُريد
العمل بالشّريعة الغرّاء دون فرض قيود عليهم ، فمُنِعوا مِن ذلك وحصل ما حصل بين
الجانبين.
نعم ! قد يرى العاقل أنّ هذه فتنة أرادها الله سبحانه وتعالى ليعْلم الصّادقَ الّذي
سيثْبُت في دينه مِن الكاذب الّذي سيتملّص منه بسبب المكائد الّتي طُوِّق بها
الإسلام والمسلمون حتّى أصبحوا بذلك يتنكّرون لدينهم الحنيف الّذي سطَّرَه لهم ربّ
العالمين. والحقيقة أنّه لا أحدَ يجوز له الارتداد عنه لأنّه دِينٌ سماوي مقدَّسٌ
ودائم لا تبديل ولا تغيير فيه كما جاء بقوله تعالى: ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً﴾ [52
النّحل]،
جعله الله دستورًا لعباده مِن الإنس والجانّ وهو يتضمّن جميع الأحكام في العبادات
والمعاملات.
إنّ
الّذين نسبوا التّخلّف والتّعْس والنّكْس لشعوبهم بسبب الإسلام ليسوا على حقّ ،
نقول لهم عفْوًا ! إنّ سببها الّذين لم يُواكِبوا المسيرَةَ النّبوِية كما هو
مطلوب ، فبدّلوا وغيّروا وأهملوا جوْهرَها والله تعالى يقول: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [30 الشّورى]،
ولم يقُلْ تمسُّككُم بالدّينِ هو السّببُ في التّخلُّف والانْحِطاط. والدّليل قوله
تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ
فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [96
الأعراف].
إنّ
أخْذ الشّعوب إلى الحالة السّيّئة الّتي هُمْ عليها يرجع رأسًا إلى ما كانوا
يَكْسِبون من أنواع من المآثم.
ونلاحظ أنّ أغلب الشّهادات الثّقافية العصرية إنْ لم أقل كلّها وكذلك التّنافس على
الحصول عليها كانت للكسب المادّي لضمان الحياة الدّنيا لا للتّوصّل إلى كيفيّة العبودية
والطّاعة لله ربّ البرية ، ولا للحصول على الوراثة النّبوية بل لتربية أبنائهم منذ
الصّغر والحرص على تعليمهم فنون وشؤون الحياة الدّنيا الفانية وغرْس ذلك في نفوسهم
إذ لم يضعوا لمصيرهم في الآخرة الباقية أيّ حساب. يا حسرة على المؤمنين اليوم ! كم
فرّطوا في جنب الله من منافع جمّـة أبدلوها بما لا يُسمن ولا يُغني من جوع ! وإنّي
أنصح المجتمعات الإسلامية أن ترجع إلى العمل بدينها عقيدة وقولاً وعملاً ، وأن
تتعاون وتتضامن دينًا ودُنيا ، وتتجاوز الأحداث المشؤومة وتصوّراتها اللّئيمة
الّتي فرّقتهم في العقود الماضية إنْ لم أقل في القرون وأحدثتْ بينهم خلافات واسعة
النّطاق بل عداوات شديدة غيّرت أرضية عقليات الكثير منهم إلى القحط فأصبحت لا
ثِمار فيها ولا نفع منها ما دامتْ تبْتعِد عن دستور الله ، وتراه غير صالح لجيل
يُريد الحرية والتّخلّص مِن القيود الدّينية خاصّة كتحريم الخمر والرّشا والرّبا
والزّنا والفحش والتّفاحش بصفة عامّة... وكَنّ الحقد والكراهية على المتديّنين.
أنصحهم ليُدركوا بأنّ كلّ ما حدثَ سببه أعداء الدّين في الشّرق والغرب ليُفرّقوا
عناصره بوسائل متعدّدة مِن إغراء بالمال لبعض والتّمكين من السّلاح ووسائل القمع للبعض
الآخر قصد إضعافنا وتفريقنا وإفساد أرضيتنا العقلية الإسلامية لتكون بورًا لا خير
فيها. وبذلك تمكّنوا منّا لنكون لهم عبيدًا فاستغلّوا قدرتنا المادّية مِن ثروات
وطاقات وعلوم واختراعات فأصبحنا شعوب استهلاك لا شعوب إنتاج حيث أصبحنا تبعًا لهم
في كلّ شيء حتّى أنّ لغتنا العربية المجيدة قد أهملنا الكثير منها بسبب محبّتنا
ورغبتنا وتقليدنا لثقافات ولُغات أجنبية. لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم.
خ-
ولا
نَنسى قول الله تعالى العظيم الدّاعي إلى ِتبْيان البيِّنات والهدى للنّاس وهذا
نصّه:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ
يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ [159
البقرة].
بيّنت الآية مآل الّذين يكتمون ما أنزل الله بالكتاب وهي اللّعنة عليهم أيْ الطّرد
من رحمة الله كما أُطرد إبليس. فما بالك بالّذين لم يكتموا الحقّ فحسب بل يكتمونه
عندهم وينْقِمون ممّن أظهروه وبيّنوه للنّاس على حقيقته في قالب وعظ وإرشاد
واعتبار ونصيحة من أمْرٍ بمعروف ونهيٍ عن منكر سواء كانت شفاهية أو كتابية ، فردية
أو جماعية كحِلق الذِّكر بأنواعها وسواء كانت مباشرة أو عن طريق الصّحف والإذاعات
والتّلفيزيونات والانترنيت ولا يمكن ذلك أبدًا إلاّ بترخيص مِن ولاّة الأمور إن
كانت النّصيحة على منهاج ما يوافق سياستهم. أمّا ما يوافق سياسة الرّحمٰن جلّ
جلاله فهم عنها غافلون.
- نعم كان مُنطلقنا إلى إعداد هذا الكتاب مِن أبواب الفضل المتنوّعة بالآيات
المذكورة أعلاه كالّتي ذكرناها آية آية وغيرها كثير. لذلك عقدنا العزم على شرح
القرآن الكريم بإذن الله تعالى وعونه المستديم.
- وعلى كلّ حال نرجو أن تنظروا بعين الاعتبار لمعاني الشرح الرّحمـٰنية بكلّ
عناية للاستفادة أكثر بقطع النظر عن مبانيه اللفظية مهما كان حالها.
واعذرونا
إن رأيتم تقصيرا منّا أو خطأ ، فهذه مِن الصّفات البشرية مهما بلغت مِن كمال وإن
لم تروا إلاّ كمالا وجمالا فذاك مِن فضل الله وبركته ومِن تواضعكم معنا.
- مع العلم أنّه لا يخلو الحال مِن خاذل قادح وناصر مادح ، ومِن معاند وقِح ومساند
صريح. وقد اعتمدنا في هذا الأمْر العظيم على المولى الكريم وتجاوزنا كلّ النّظريات
والمقاييس العقلية الخالية مِن التّرابط مع النّصوص الشّرعية كتاب الله وسنّة خير
البرية صلّى الله عليه وسلّم وتحَصَّنَّا بما جاء بقوله تعالى: ﴿ فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
¤ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
[7-8 الزلزلة]
وإنّما
الأعمال بالنيّات.
عمِلنا وحرصنا على أن يكون مدلول ما عَسُر فهمه من المعاني القرآنية أو زيادة
الفهم فيها مُبسّطا للغاية لأهل الزّمان ليكون في متناول كلّ المؤمنين على مختلف
مستوياتهم. وليظلّ النّفع أشمل وأعمّ ، ويكون متماشيا
ومناسبا خاصّة أهل القرن الخامس عشر هجريا أو نقول القرن الحادي والعشرين ميلاديا
-
وما
بعده من قرون
-
الّذي غزَتْ فيه الحضارات والثّقافات الزّائفة ذات المظاهر الخدّاعة الإسلامَ
والمسلمين حتى أصبح الكثير والكثير منهم أفرادا أو جماعات أو شعوبا وقبائل
مُتأثّرين ومغرورين ومخدوعين بِها. وأصبحوا من خدّامها بل من جنودها الحازمين
الدّاعين للعمل بمبادئها عوض العمل بالمبادئ الربّانية المستمدّة من الكتاب الحكيم
والسنّة الشّريفة اللذَيْن وقع التّطرف والابتعاد عنهما كما أشار قوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ
إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [26
الأنعام]. ونسوا
ما جاء بقوله صلّى الله عليه وسلّم عن زيد
بن الأرقم رضي الله عنه:
(أمّا
بعد: ألا أيّها النّاس، فإنّما أنا بشر يُوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجِيب، وأنا
تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنّور، من استمسك به وأخذ به كان
على الهـدى، ومـن أخْطأهُ ضلّ، فخذُوا بكتاب الله تعالى واستمسكُوا به، وأهل
بيتـي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي) [رواه
مسلم]. ومعنى ذلك إن تمسّكتم بهما لن
تضلّوا أبدا. وإن رفضتم التّمسّك بهما ضللتم ضلالا مبينا. وهذا هو حال الأغلبية
اليوم.
ونلاحظ أنّ مِن بين الّذين يتّبعون أهواءهم بغير علم مِن الّذين بيدهم السّلطان
وبطانتهم فإنّهم يرفضون التّمسّك بما جاء به الكتاب ،
ويمنعون غيرهم مِن ذلك وخاصّة ممّن لهم نفوذ عليهم إذ أنّهم وقفوا على أبواب
المعاش فلا يناله أحد إلاّ برخصة منهم. مع العلم أنّ أوْلويّة إعطاء الرّخص تكون
لغير المصلحين بالبلاد وهم الّذين يستغلّون ثرواتها لمصالحهم الشّخصية بطريقة أو
بأخرى. تراهم يُبدون كلّ ما في وسعهم من مجهود لموالاة رؤسائهم وكبرائهم ولوْ
بالطّرق غير الشّرعية ليُظهروا لهم الوَلاء والإخلاص والتّحبُّبَ إليهم ليطمئنّوا
بهم وذلك كما يُقال لغاية في نفس يعقوب قضاها. أمّا المؤمن الصّادق فهو متّهم
عندهم بالتّشدّد لتَميُّزه بالواقعية والجدّية. لذلك فهم يضايقونه ويجعلون عليه
حصارا اقتصاديا ، سُنّة ما وقع لرسول الله صلّى الله
عليه وسلّم كما بيّنها لنا القرآن: ﴿هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى
يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [7
المنافقون]. وإنّ
الماسك على دينه اليوم كالماسك على الجمر ، والحمد لله
على كلّ حال.
﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ
اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ¤ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً
عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا
لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ﴾ [36-37
الرعد].
لقد اخترنا مِن الآيات أعلاه أمْرين هامّين لإصلاح الأمّة نقدّمهما
في هذا الدّرس كمرجع وهما:
1-
"وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ"
سنتعرّض لذكرها بعد قليل.
2- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ
خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ¤
جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [7-8
البيّنة]. ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً
عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا
لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ﴾ [37
الرّعد]،
على بركة الله تعالى نبتدئ بقوله هذا فنناشد كُلاًّ مِن:
أ- رؤسائنا سادتنا الحكّـام والسّلاطين
والملوك والأمراء وُلاّةُ أمورِ الشّعوب
الإسلامية العربية والأعجميّة.
ب- كُبرائنا العلماء أُولِي الأمر مِن كافّة الأقطار
الإسلامية العربية والعجمية. وهم الآمرون بالمعروف والنّاهون عن المنكر من الدّرجة
الأولى كما جاء تفصيل ذكر صفاتهم بالتّنْزيل العزيز ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [112
التّوبة]. إنْ
صحّتْ هذه المقارنة القيّمة فيهم !
ت- الشّعوب الإسلامية رجالها ونسائها شبابها وكهولها
وشيوخها.
مِن المعلوم أنّنا جميعا مسلمون موحّدون ، ربّنا الله
واحد ، نبيّنا محمّد رسول الله ، قبلتنا الكعبة ،كتابنا القرآن الكريم الّذي نزّله
الله إلينا دستورا للعمل به ، وذلك لتنظيم حياتنا الدّنيويّة والبرزخيّة
والأخرويّة تنظيما مُحْكما مِن لدُنْ خالقنا الخبير
الحكيم جلّ جلاله الّذي وعد بالجنّة مَن أطاعه وعمل بأمْره. وتوعّد بنار الجحيم
مَن عصاه أو كفر به.
ومِن المعلوم كذلك أنّ الرّسول سيّدنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم تَرَكَنا جميعا
على المحجّة البيضاء والطّريق المستقيم أمّةً حنيفيةً واحدةً ،
دولةً واحدةً ، وحُكمًا واحدًا وإن تعدّدت الشّعوب. وكان المسلمون منصورين بنصر
الله لهم لَمّا كانوا قائمين بأوامره ومجتنبين نواهيه.
أمّا اليوم ونحن في القرن 15 هجريا فحالة
المسلمين ساءت جدًا دينيا ودنيويا. ففشلت قواهم وتفرّقت صفوفهم ، ضعُف إيمانهم وحلّت بهم المصائب والكوارث
غير المعهودة. رغم ذلك ما زالوا لم يُفكّروا في الرّجوع إلى أمْر الله الّذي
ابتعدوا عنه كثيرا.
وإليكم
بعض
أسباب بُعدهم عن الله
الّذي كان سببا لهلاكهم بالسّخط عليهم.
- الخـمـر: رغم التّغليظ في تحريمه فهو
منتشر وجوده عند المسلمين ومستعمل مِن طرفهم صُنعا واستيرادا ،
ترويجا وشُربا سِرًّا وجهرا حتى أصبح عُرْفا عندهم.
- الـرّبــا: رغم التّغليظ في تحريمه وجزائه
يوم القيامة كجزاء الكافر العذاب الشّديد والخلود في النّار وإليكم الدّليل: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا
يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا
سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [275 البقرة].
- الرّشــا: كذلك رغم
التّغليظ في تحريمه فإنّ أغلب المعاملات للكسب ولقضاء الحاجات وفي جُلِّ الميادين
لا تتمّ إلاّ به فقد أصبح عرْفا عندهم.
- السّفـور: واختلاط الذّكور بالإناث في
حالات وأماكن مُرِيبة في بعض الطّبقات والمستويات والأعمار مِمّا يبعث الشكّ في
تعاطيهم أعمالا مُجُونِيّة تبلغ في بعض الأحيان مستوى
الكفر البواح. والغريب أنّهم يرونه مُباحا وسلوكا حضاريا ،
يُفْتون في ذلك لأنفسهم اعتمادا على القول: الضرورات تُبيح المحظورات ونقول بالعكس
مِن أنّ الشّهوات المحظورة تقضي على الكرامة. وإنّ هذه المعاصي بالذّات أصحابها
مبغوضون عند الله عزّ وجلّ ولكنّها أصبحت عرْفا عندهم يعتزّون ويتباهون بها.
-
إنكار ونبذ العمل بأهمّ أحكام شرع الله العزيز كما جاء بقوله تعالى:
﴿وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ [36
الرعد].
وأصبحت عِوضه قوانين تبعا للهوى ومختلفة المشارب قد سنّتها أحزاب سياسية حاكمة
بالبلدان الإسلامية كما نصّ قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ
يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [21
الشورى].
نعم هذا ما هو واقع فعلا إذ أنّهم يستعملون الآن الأحكام الوضعية.
عباد
الله ! قد بلَغْنا إلى هذا الحدّ المشؤوم ونحن في غفلة
ساهون وفي غمرة مِن حبِّ الحياة مُشتغلون ، ولا حدَّ
يُقام على العُصاة إلاّ بعض إجراءات خفيفة غير زاجرة لأنّها لا تقوم مقام الشّرع.
لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
إلى هنا يكفي هذا التّوضيح. وعلينا أن نتشاور ونتناصح
بكلّ صدق وإخلاص وشفافية خالية من المكر والخداع والخيانة مِن جميع الجوانب
الشّعبية والحكومية ونقول:
- إنّ سادتنا الحكّام الّذين يرأسُون بكلّ نزاهة أحزابا سياسية مبنية على العدل
وحرية الرّأي والتّعبير حسب زعمهم نقول لهم بـارك الله فيكم ولكن
عليكم أن تعْرِضوا على شرع الله تعالى كلّ أمْر -أردتّم القضاء فيه-. وأن تحكموا
بما أنزل الله وتتجنّبوا كلّ ما من شأنه أن يسوق بكم وبشعوبكم إلى الكفر والظّلم
والفسوق والعصيان. كما جاء
بمحكم
التنْزيل: ﴿وَمَن لَّمْ
يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [44
المائدة].
- وإنّ على كبرائنا العلماء رضي الله عنهم أن يلتفّوا حول بعضهم وأن يتوجّهوا
بآرائهم وأفكارهم ونصائحهم بمقتضى شرع الله العزيز جلّ
جلاله
استمدادا
منه وعملا به. وأن يحذروا الوقوع في ما فيه الكثير مِمّن
قد تفرّقوا واختلفوا عن الكتاب والسُنّة في الرّأي وتمذهبوا
بمذاهب مختلفة المشارب أدّتْ حتمًا إلى بثّ سموم العداوة والبغضاء في ما بينهم
مِمّا مكّن منهم العدوّ بسرعة وفي النّهاية إلى غضب الله وسخطه. وإليكم الدّليل: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ¤ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ¤ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ
بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [104-106
آل عمران].
إنّ التّفرّق والاختلاف عن القوم -أهل الله- وعن هاديهم
أيْ إمامهم يؤدّي شيئًا فشيئًا إلى الكفر بعد الإيمان. لذلك جاء بالآية أعلاه قوله
تعالى: "فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ" والحال أنّهم كانوا مؤمنين صفّا واحدا قد اكتسبوا الكفر بعد
الإيمان بسبب اختلافهم وتفرّقهم الّذي يأْباهُ الله
ورسوله.
ثمّ إنّ الحديث الشّريف واضح في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (تفترق
أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّهنّ في النار إلاّ واحدة ،
ما أنا عليه اليوم وأصحابي) [الأوسط
للطبراني عن أنس رضي الله عنه]. أيْ أنّ كلّ مَن افترقوا واختلفوا عن
الجماعة أهل الله الّذين هم على منهاج النّبوّة فإنّهم يُحشرون يوم القيامة وجوههم
مُسودّة وذلك لابتعادهم شيئا فشيئا عن الجماعة المعتصمة بحبل الله إلى أن بلغوا
مرحلة العداوة والبغضاء بينهم. فبذلك قد هلكوا كما جاء بالحديث القدسي: (مَن
آذى لي ولِيًّا فقد استحلّ محاربتي ...) [رواه
أحمد عن عائشة رضي الله عنها]. لأنّ الوَلاية مركز اعتصام بالله فمن
عاداها فقد أحدث أمْرين هامّين كانا سببا في الكفر: عداوة الله أوّلاً
، واختلاف وتفريق الأمّة ثانيًا. وكلّ ذلك كبير عند الله.
إنّ
على الشّعوب الإسلامية قاطبة
أن
تلتفّ
حول
العلماء العاملين.
وأن تستمع منهم القول فتتّبع أحسنه وهو ما كان من كلام الله تعالى وهدْيِ الرّسول
صلّى الله عليه وسلّم ،
وأن لا تُحْدث فتنا لحكّامها من قاتل ومقتول ومسجون إن كان هؤلاء الحكّام على
شريعة الله لأنّ الفتنة أشدّ من القتل شرًّا وفسادًا في الأرض ، وعقابًا عند الله
في الآخرة. وإن اختلفتم في شيء فردّوه إلى الله «
الكتاب
»
والرّسول «
السنّة »
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا مِن أن تردّوه إلى بطانة
جمعية الأمم المتّحدة الخادعة لغيرها والمغرورة بنفسها.
وإنّي أعتبر أنّ مقالتي هذه بلاغ للحكّام والعلماء والشّعوب على حدّ السّواء
ليُسوّوا أوضاعهم الدّينية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها في ما بينهم على قواعد
الحُكم العربي كما نصّت الآية ﴿وَكَذَلِكَ
أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا
جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ﴾ [37
الرعد].
ولئن اتّبعت أهواءهم على غِرار آراء وأهواء وأحكام عصابة جمعية الأمم المتّحدة وما
شابهها سابقا وحاضرا ولاحِقًا فإنّ ذلك هو التّحاكم إلى
الطّاغوت الّذي نهى الله عنه ، ومالك إذَن مِن الله مِن
وليّ يواليك ولا واقٍ يقيك من عذاب نار الجحيم.
إنّ
عصابة جمعية الأمم المتّحدة تأسيسها خُدعة. وإنّها لا تعمل إلاّ لصالح مؤسّسيها
مِن النّصرانية واليهودية. فإذا لم يتم ّ الأمْر لصالحهم استعملوا حقّ
"الفيتو" أي اغتصبوا بهيمنتهم الحقّ وجعلوه من نصيبهم. ومن جهة أُخرى
فإنّها أيْ الجمعية الأممية جاهدة لتغيير العقيدة والعقلية الإسلامية تحت ستار
"الاندماجية" إلى عقلية وعقيدة مسيحية متطرّفة لجبر المسلمين على
اتّباعهم وطاعتهم والعمل بآرائهم ومبادئهم العلمانية تحت شعار الحرية والحضارة
المبهرجة الخالية مِن أحكام التّوراة والإنجيل الّتي نبذوها. وبغرورنا بهم وطاعتنا
لهم نبذنا مثلهم العمل بأحكام القرآن الكريم ، إذ لا
تنفيذ لأحكام ولا وقوف عند حدود شرعية نصّ عليها القرآن كأنّنا لم نسمع ولم نفهم
نصّ قوله تعالى والحال أنّنا مثقّفون: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن
بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [109
البقرة].
نعم ، ما نصّت عليه الآية هو السّعي إلى تكفيرنا بعد
الإيمان وهي بُغيتهم الغالية مع العمل على استغلال ثروات المسلمين وإنهاك قواهم في
جميع الميادين دون استثناء. فاحذروا جميعا من هذه الطامّة ،
واعملوا بجدّ للتّخلّص منها ونبذ ما حصل لكم.
واسترجعوا مجدكم وعزّتكم وكرامتكم وشهامتكم ورجولتكم وشجاعتكم وبصفة عامّة
استرجعوا مروءاتكم.
إنّ العمل بما جاء به كتاب القرآن الكريم مِنْ أوامِر هو فرْضٌ على المؤمنين في
أيّ زمانٍ ومكانٍ كلٌّ حسْبَ استطاعته. أمّا ما جاء فيه مِنْ نواهٍ فلابدّ على الجميع
مِنَ الوقوف عند الحدود دون استثناء. كذلك الحال بالنّسبة
لِمَا جاءت به السُنّة الشّريفة. وإنّ أمْرَ الكتاب وأمْرَ السُنّة
متماثلان ومتلازمان ولا فرق بينهما إذ أنّ الوحي والسُنّة نزل بهما جبريل عليه
السّلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القائل لنا في حديث له: (أُوتيتُ
الكتابَ ومثلَه معه) [رواه
أبو داود عن المقدام بن معد]. وعن الحَكَم بن عمير الثمالي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (إنّ
هذا القرآن صعب مُستصعب لمن كرهه، ميسّر لمن تبعه، وإنّ مِن حديثي صعب مُستصعب لمن
كرهه، مُيسّر لمن تبعه، مَن سمع حديثي فحفظه وعمل به جاء يوم القيامة مع القرآن،
ومَن تهاون بحديثي فقد تهاون بالقرآن ، ومَن تهاون
بالقرآن خسر الدّنيا والآخرة) [رواه الخطيب
في الجامع].
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (القرآن
حجّة لك أو عليك) [رواه مسلم عن أبي مالك
الأشعري].
حجة لك إذا تلوته حقّ تلاوته وعملتَ به كما ذكرنا وتفكّرتَ واعتبَرْتَ ووعظتَ
واسْتبْصرْتَ فإنّه يُدخلك الجنّة. وحجّة عليك إذا عملتَ عكس ذلك فإنّه يُدخلك
النّار ولو كنتَ تحفظه وتقرأه عن ظهْر قلبٍ لأنّ القرآن لم ينزل علينا لمجرّد
قراءته بل هو دستور يجب العمل بمقتضاه وكانت قراءته لأجل ذلك.
عن الحسن مرسلا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (ما
أنزل الله عزّ وجل آية إلاّ لها ظهر وبطن، وكلّ حرف حدّ,
وكلّ حدّ مطلع) [رواه
أبو عبيد في فضائله]. وقال حجاج عن الحسن تفسيرا آخَرَ أنّه قال: "الظّهر هو الظّاهر والبطن
هو السرّ والحدّ هو الحرف الّذي فيه علم الخير والشرّ والمطلع الأمر
والنّهي".
وألاحظ أنّي لم أخْش في الله لوْمةَ لائم إذ توسّعتُ في التّفسير والشّرح ودِقّة البيان لعوامل
التّرغيب للخير ودواعيها
وعوامل
التّرهيب مِنَ الشرّ ودواعيها حتّى أكون أدّيتُ مسؤوليةَ التّبليغ استجابةً لقوله
تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [45
ق]، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء
فَلْيَكْفُرْ﴾ [29
الكهف]. لأبْرَّأ
ذمّتي أمام الله وهو حسبي ونِعْمَ الوكيل.
مع العلم أنّ الاستفادة من القرآن لا تكون وافية وكافية إلاّ إذا اعتبر المستفيد
أنّ القرآن نزل عليه هو شخصيًّا ، وبقدر احتياج المسلمين
له ونفعه لهم في صدر الإسلام بقدر احتياجه هو له فسينفعه في آخر الزّمان. عندها
يقدر على تدبّره فيرى أنّ الأمْر والنّهي له لا لغيره فحسب ،
والخير يرغب فيه والشرّ يعرض عنه ، يمارس ما هو حلال ويجتنب كلّ ما هو حرام ويقف
عند الحدود. عند ذلك يكون مؤمنا ذا فراسة ويكون وَرِعًـا في دينه فيزداد إيمانه
شيئا فشيئا إلى درجة الإيقان ثمّ إلى درجة الكمال المعبّر عنها بالإحسان.
ولا تنسوا قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: (ليس
القرآن بالتّلاوة ولا العلم بالرّواية, ولكن القرآن
بالهداية, والعلم بالدّراية) [رواه
الدّيلمي عن أنس رضي الله عنه].
واحذروا
مِن قوله صلّى الله عليه وسلّم هذا: (ليقرأنّ
القرآن ناس مِن أمّتي يمرقون مِن الإسلام كما يمرق السّهم مِن الرّمية) [رواه
أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما].
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ إنّ الخطاب
المباشر مِن أكبر عناية الله بمن يشاء مِن عباده. والحمد لله الّذي جعل مِن النّاس
مؤمنين حقًّا. وخاطبهم مباشرة لاستعدادهم ورهافة أسماعِهم وحِدّة أبصارهم ونور
بَصائرهم وسلامة قلوبهم واستقامة ظواهرِهم وشدّة رغبتهم إلى ربّهم إذ أنّهم
لَبُّوا الخطاب فقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير. لذلك تلَقَّوْا
منه مباشرة تسعةً وثمانين (89) خطاباً من أمْر ونهي ووعد
ووعيد عن طريق الوحي القرآني كما جاء بالكتاب زيادة على ما لا يُحصى ولا يُعدّ مِن
خطابات الإلهام الفرديّة الْمُوجّهة إلى قلوب أوليائه المقرّبين الّتي يُراد بها
علاج وإصلاح أحوال عباده دينا ودنيا. وبذلك أدّبهم الله فأحسن تأديبهم ، عندها عرفوه
حقًّا أنّه هو الله ذاتاً وصِفاتٍ وعرفوا أنفسَهم حقّ المعرفة بأنّ ظهورَها منه
ورجوعَها إليه. وعرفوا كلّ الوجود وما احتوى على هذه الصّفة حيث أنّه لا إلـٰه إلاّ الله ولا موجود سواه في حسّه وفي معناه.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾
خطاب يشمل جميع المؤمنين بصفة عامّة مِن
الإنس والجانّ والرّسل والأنبياء والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين بصفة خاصّة ،
وهي كلمة دقيقة لا يَسمع معناها ولا يُلبِّي للعمل بفحواها إلاّ أهل البصيرة مِن
أهل الإيمان الّذين كلّما تذكّروا قوله تعالى تدبّروا: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا﴾ [24
محمّد].
نقول أنّ كلّ قلب فهِم القرآن وتدبّرَه فلا أقفال عليه مِن حُجب الغفلة والمعاصي.
ونقول أنّ هذه هي الحرّية المطلقة والحضارة الشّامخة الّتي يمكن أن يدعو لها
العلماء بعد الدّعوة إلى قيام أركان الدّين لأن ّالقيام بأركان الدّين وحدها لا
يكفي مادامت القلوب مُقفل عليها بالرّان الّذي سوّدها وأظلمها مِِن كثرة الذّنوب
والآثام. أمّا إذا انفتحت القلوب وتنوّرت صار أصحابها مِن أُولي الألباب والحمد
لله القائل: ﴿كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [29
ص].
ولا يفوتنا أنّ كلّ خطاب من المولى عزّ وجلّ للمُخاطَب مهما كان جنسه سماءً أو
أرضا أو مَلَكا أو غير ذلك إلاّ ووقعت الاستجابة له بالسّمع والطّاعة إذ قال تعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا
وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [11
فصّلت].
وقال: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [275
الأنبياء]. فكانت
كما أمَر. وقال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ﴾ [34
البقرة].
ومع كل أسف إننا نجد السّواد الأعظم مِن بين مَن خُلقوا خِصّيصا لعبادةِ ربّهم قد
أبوْا ذلك ولم يستجيبوا مصداقا للآية: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ
مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً﴾ [89
الإسراء]. ومِن
بين أولئك مَن هم مِن هذه الأمّة الإسلاميّة المكرّمة قد انحرفوا عن
واقع الإسلام ويحسبون أنّهم مهتدون. وإليكم ما يُصدِّق هذا الرّأي مِن حديث رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم: (عليكم
بلا إلـٰه إلاّ الله والاستغفار، فأكثِرُوا منهما، فإنّ
إبليس قال: أهلكتُ النّاس بالذّنوب، وأهلكوني بلا إِلَـٰه
إلاّ الله والاستغفار، فلمّا رأيتُ ذلك أهلكْتُهُم بالأهواء وهُم يحسبُون أنّهُم
مُهتدُون) [رواه
أبو يعلي عن أبي بكر رضي الله عنه]. واللهِ
ثمّ تاللهِ لو نزل كتاب مِن السّماء إلى الأرض بعد القرآن لأطلعكم على مناكر
الكثير مِن المسلمين وفَضَحهم كما فضح لنا القرآن الكريم والحديث الشّريف أعمال
الأمم السّابقة
فقد
جاء في الحديث الشّريف: (ليأتِيَـنّ
على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النّعل بالنّعل، حتّى إنْ كان منهم مَن
أتى أُمَّهُ علانيّة لكان في أمّتي مَن يصنع ذلك، وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على
ثنتين وسبعين مِلّة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين مِلّة، كلّهم في النّار إلاّ
مِلّة واحدة ما أنا عليه وأصحابي) [رواه
الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه].
اعلموا بارك الله فيكم أنّّ كلّ كلمة "قل" بالقرآن الكريم كـ: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [120
البقرة]. هي
أمْرُ خطاب مُوجّه نازلٌٌ على النّبيّ سيّدنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم من الدّرجة الأولى ثمّ من بعده لخلفائه الرّاشدين ثمّ للأئمّة والعلماء
العاملين ثم لصالحي المؤمنين الّذين يخوضون بكلّ دراية في بحور معرفة العلوم بصدق
ورَويّة. و"قل" هي كلمة تفيدنا بوجود الوسيلة
الواسطة مِن أنبياء ورسل بين الربّ وعباده مصداقا لقوله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ"...
فكلمة "سألك" تعضد كلمة " قل" وتؤكّد لنا وجود الواسطة
النّبوِيّة والرّسوليّة والخليفيّة.
مع العلم أنّ مفعول "قُل" بالقرآن لا ينتهي لمجرّد انتقال الرّسول صلّى
الله عليه وسلّم إلى الرّفيق الأعلى بل مفعولها متواصل بعده إلى يوم الدّين. ولكلّ
الأمناء على الأمانة مِن العلماء خاصّة ومِن كلّ مَن ذكرناهم آنفا في كلّ جيل
وزمان باستثناء أربعة خطابات ربّما لا يمكن التّعامل معها. وتبقى خاصّة بالنّبيّ
صلّى الله عليه وسلّم وهي:
- ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ
وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى
الْكَاذِبِينَ﴾ [61
آل عمران].
- ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي
وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [158
الأعراف].
- ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ
بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [9 الأحقاف].
- ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ¤ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ
بِرَبِّنَا أَحَداً﴾ [1-2 الجنّ].
لم نتعرّض ولم نُبيّن أسباب نزول الآيات لأنّ وقوع الاختلاف فيها كثير مع أنّ العبرة
ليست في معرفة المتسبّب مادام كلّ ابن آدم خطّاء إذن فكلّهم سبب
، يحتاجون إلى إصلاح أمورهم. وبِوِدّنا أن لا نجعل القرآن عِضِين كأن نقول
مثلا: هذا في حقّ فرعون وجنوده ، وهذا في حقّ نوح وقومه
، وهذا في
حقّ
كذا ،
وهذا
في حقّ كذا.
ونقول
في أنفسنا إنّ أمْرَ هؤلاء لا يهمُّنا ،
بالعكس علينا أن نسعى للفائدة والعبرة مِن ذلك كلّه ، وأن نشعر بما هو حقّ علينا
رغم أنّ كلّ القرآن حقٌّ علينا وأمْرٌ إلينا بما فيه مِن تبشير وتنذير وترغيب وترهيب وقصص وأخبار للعبرة
والوعظ
والإرشاد
للعمل به طاعة وصدقا ووفاء وإخلاصا.
كذلك لم نتعرّض إلى ما يُسمّى بالنّاسخ والمنسوخ:
- أوّلا: لعدم توصُّلنا إلى حقيقة ذلك وكيفيته.
- ثانيا: لوجود اختلاف في الرّوايات.
لقد اكتفينا بتقديم الحجج الدّامغة والبراهين السّاطعة عوضا عن تقاريظ العلماء لَمّا رأينا أنّ الظّرف غير مُتاح لذلك. ونحن
على استعداد لتقاريظ العلماء إن سمحت الظّروف في
المستقبل.
والملاحظ في اعتقادي أنّ علم الإلهام مِن المولى العلاّم جلّ جلاله هو أعلى سند
ولا يحتاج إلى مَن يعضده ونقول أنّ المجدِّد غير مقلِّد لغيره بل يأخذ مِن كتاب
الله وسنّة رسوله مباشرة مِن غير واسطة.
وأرجو مِن السّادة القرّاء أن يتحلّوا بالآداب ويتجنّبوا أيّ طعن في أمْر
الله إن كانوا يرون صعوبة أو ظلما في أحكامه كأنْ يقولوا مثلا هذا مغالاة أو
إفراط. ولابدّ مِن تيْسِير الأمْر حسب ما يروْن أو يشتهون. فنقول إنّ الله هو
المدبّر الحكيم ليس له شريك أو وزير أو مستشار يفعل في ملكه ما يريد ولا يُسأل
عمّا يفعل وهم يُسألون. ولا مُعَقِّب لحكمه ولا مُبدّل لقوله. إذنْ فما علينا إلاّ
السّمع والطّاعة وأن نراجع الأمْر على حقيقته لنُدرك ما جاء بقوله تعالى " إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً " معنى ذلك أنّ
الشدّة في أحكامه تعود باليُسْر والخير على المجتمع كقطع يد السّارق مثلا فهي
أوّلا تطهير له مِن ذنوبه وثانيا ُتسبّب فقدان السّرقات والإحجام عن فعلها بصفة
نهائية وثالثا استتباب الأمْن العام والخاص بالمجتمعات. وإنّ ما يُرى عسرا ومعاناة
في القيام بالعبودية خالصة لله تعالى وقهْر النّفوس للوقوف عند حدود الرّبوبية
يتسبّب في رضا ورضوان الألوهيّة والدّخول في جنّات النّعيم والسّعادة الأبدية.