مسيرة الدليل >> أيها الإنسان >> الإنسان والقرآن

الإنسان والقرآن

   كثيرا ما يتردّد على أسماعنا الإشهار بمعنى الإنسانية وتعظيمها ويتزعّم ذلك عدد مِن النّاس للقيام بتدعيم هذه الإنسانية الّتي يعتبرونها رأس كلّ خير لكنّهم لا يروْن تدبيرا للألـوهية في شأنها وهذا عين الخطإ.

    وإنّي أقول أنّ حقيقة الإنسانية هي ما كانت مرتبطة بأمر الله تعالى لأنّ هذا الإنسان خلقه الله  تعالى ودبّر له الأمْر للحياة والممات والبعث والكلّ في كتاب مسطور. أمّا إذا خالفتْ هذه الإنسانية الأمْر الإلـهي المذكور فإنّ ذلك دليل على نزولها مِن مقامها الرّفيع الّذي قدّره الله عزّ وجلّ لها مِن مستوى السّلام إلى حضيض الأنعام. وعند ذلك لم تبق إنسانية ولم تُسمّ بذلك ، بل أصبحت بهيمية أو نقول حيوانية. ويُؤخذ ذلك مِن قوله تعالى الّذي يؤكِّد لنا الأمْر ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[179 الأعراف].

     أنظروا بارك الله فيكم كيف نصّت الآية المذكورة على انحطاط الإنسانية حتّى بلغت درجة الأنعام بل أضلّ مِن الأنعام وذلك لغفلتها عن واقع وجودها وواقع تكريمها عن كلّ ما خلق سبحانه وتعالى ، إذْ أنّ الإنسانية وتكريمها مِن الله لا يكون إلاّ في صورة التزامها بأمْره وأحكامه المتماشية مع صلاح معاشها ومعادها.

     إنّ الإنسانية اليوم نراها لم تبق على أصلها وحقيقتها بل أُدخلت عليها القَوْننَة فذبذبتها حيث أنّ القوانين الوضعية هي الّتي تتصرّف فيها والحال أنّها هي الّتي يجب أن تتصرّف في القانون بمقتضى شرع الله أو بالقياس عليه ، لأنّ هذا القانون إذا خلا مِن الشّرع خلا مِن القِيَم والمبادئ والمعاني. وكان على أيّ قانون أن يخضع أولا وقبل كلّ شيء لنظام الإنسانية لا لنظام البهيمية. وإذا كانت الإنسانية على حقيقتها فقد تعرّض الله تعالى لذكرها ذِكْرا حسنا في محكم التّنْزيل: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [181 الأعراف].

 

     وإنّي أريد أن أقول أنّ هذا القرآن نزل للإنسان بصفة عامّة غير أنّ الله اختصّ به إلاّ مَنْ هم أهلٌ له مِن عباده المؤمنين ، مع الملاحظ أنّ التّكريم يشمل العامّ والخاصّ لكن التّكريم العامّ أغلبه دنيوي أمّا الخاصّ فتكريمه دنيوي وأُخروي بإذن الله تعالى.

 

     وقد لاحظت أنّ مِن أهل العلم القرآني الّذين سبقونا بقليل مِن الزّمن يبدو أنّهم قصّروا سامحهم الله -ربّما لمصلحة ما- في تصنيف أحكام القرآن على أحوال النّاس كما هم ، بل كأنّهم خافوا مِن أن يقولوا حقًّا فيه صدع للنّاس لئلاّ يُسيئوا بذلك إلى حالهم بإحداث رجّة فكرية فيهم ، وتركوا الأمْر هكذا ، حتّى أنّ كثيرا مِن المسلمين أو المؤمنين بدأوا يرتدّون شيئا فشيئا وهم الآن « يَتَنصّرُون » أي يعتنقون مذهب النّصارى ، ولا أحدَ صدع بحقيقة ذلك لاعتقادهم أنّهم مؤمنون ولا يمكن تكفيرهم ، والحال أنّهم كفّروا أنفسَهم بأنفسهم.

    والقرآن الكريم صريح فيمَن كفر ومَن أسلم ومَن آمن ومَن نافق ومَن أشرك ومَن ارتدّ. وكلّ الآي واضحة في مقاصدها: فكلُّ مَن عمل بآيِ الخير فهو خيريٌ وكلّ مَن عمل بآيِ الشرّ فهو عكس ذلك. فهل يمكن للمؤمن أن يعمل بآيِ الشرّ ويصرّ عليه ونُسمِّيَه خيرياً؟. مالكم ؟.. هذا ما أغرّ الكثير مِن المؤمنين ويحسبون أنّهم مهتدون وأهلٌ للسّعادة وكأنّ مفاتيح الجنّة بأيديهم والحال أنّ منهم مَن لم يُصلّ تماما رغم كِبَر سنِّه. مالكم كيف نسيتم قوله تعالى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [11 العنكبوت]. ففي هذه الآية بيّن الله سبحانه وتعالى أنّ المؤمنين ليسوا هم المنافقون ، نفهم مِن أنّه عليم بالّذين آمنوا وكذلك بالّذين نافقوا حيث أنّه فصلَ بين الصّفتيْن فلم يجعل المنافقين مِن بين الّذين آمنوا، وجاء بالقرآن: ﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا [63 القصص]. فالغواية هي الضّلالة والّذين ضلُّوا لا تعتبرهم الآية مؤمنين.

-﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [32 الرّوم].  

إنّ الآية اعتبرت الّذين فرّقوا الدّين واتّخذوا أحزابا مِن دون حزب الله وهم بها فرحون مشركين. هل أنّ الّذين كانت أعينهم في حجاب عن ذكر الله لا يقرؤونه ولا يتدبّرونه ولا يعملون به هم مؤمنون ؟ إليكم الجواب مِن قول الله في ذلك: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً ¤ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً [100-101 الكهف].

 

   اعتبر الله سبحانه وتعالى أنّ مَن لا ينظرون إلى القرآن تقديسا وعملا به ، لا يمكنهم الاستماع إليه كما جـاء بآية أخرى: "قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ" [21 الأنفال]. أو ردّوا بالرّفض وعدم الاستماع عمدا لأنّهم لا يروْن أنّ فيه نفعًا هم في حاجة إليه ، فهؤلاء نصّت الآية آنفا على كفرهم وهم مِن أهل جهنّم.

﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ¤ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ[7-8 الزّلزلة]. أليست هذه الآية واضحة للفصل بين معاني الإيمان ومعاني الكفر.

 

    أيّها العلماء إنّكم تروْن أنّ آي القرآن النّازلة بسببٍ مَا لا يمكن أن تكون إلاّ له ، وهذا خطأ كبير وإثم عظيم في حصر الآي إلاّ في أسباب ومسبّبات معيّنة بمقتضى حصول حوادث في ذلك الزّمان ، وزيادة على هذا جعلوا القرآن عضين. مثل ذلك أنّهم يقولون: هذا في حقّ آدم وهذا في حقّ إبراهيم وهذا في حقّ يوسف وهذا في حقّ داود وهذا في حقّ موسى وهذا في حقّ عيسى عليهم جميعا الصّلاة والسّلام وهذا في حقّ اليهود وهذا في حقّ النّصارى وهذا في حقّ قوم لوط وهذا في حقّ قوم عاد وهذا في حقّ فرعون ونحو ذلك.. إذًا فأين ما كان مِن الآي في حقّ الأمّة المحمّدية الّتي نزل عليها وإليها؟.

 

     والحقيقة أنّ الآي قد تشمل أصحاب كلّ حادثة من ذلك الصّنف الّذي نصّت عليه سواء كان خيرا أو شرّا إلى يوم القيامة ، وسواء كان المتسبِّب صاحب الحادثة كافرا أو مشركا أو منافقا أو مؤمنا وفي أيّ مكان أو زمان كان. وأكبر مشكلة هي المنافقون الّذين يرى العلماء أنّهم من المؤمنين ، هل أنّ المؤمنين يقول فيهم الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [145 النّساء]. وقال: ﴿إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [140 النّساء]. فجَمْع المنافقين والكافرين في جهنّم لا يدلّ على إيمانهم. فلماذا يقع الاحتراز أو الخشية مِن مصارحتهم بذلك لإصلاحهم ؟ والله يقول: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [44 المائدة]. انظروا كيف وقعت الإساءة على الحُكم كما بيّنت الآية ، ثمّ انظروا وقِيسوا الأحوال الّتي ترونها في المجتمعات الإسلامية وما آلت إليه مِن بلاء بسبب مخالفتهم لحكم الله. والغريب أنّهم مازالوا مصمّمين على مسيرة غمرتهم وكأنّهم ما قرأوا: "قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ¤ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ" [10-11 الذّاريات]. ومعنى ذلك لُعِن الكذّابون الّذين هم في غمرة التّسابق لحبّ الدّنيا وهم بها منشغلون ، وعن أمْر الله لهم وحكمه عليهم غافلون بل ساهون.

وكذلك لا يمكن أن يكون القرآن وقفا على أحد مِن العالمين ، ولا أن تكون أسباب النّزول حاصرة المقصد على المقصود صاحب الفعل بالذّات بل تشمل كلّ صاحب فعل كان مثله مِن ذلك الزّمان إلى قيام السّاعة.

 

  وبهاته المناسبة أقدّم قولا كريما في هذا الشّأن لأحدِ مشائخي السّالفين سيّدنا أحمد بن مصطفى العلاوي قدّس الله سرّه مِن مستغانم الجزائر مِن كتابه « البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النّور »  ص 11 وص 17 وص 23:

 

وفيما يلي مِن الصّفحة 17 مِن كتابه: ما يُفيد أنّ للقرآن وجوها وإنّه لا تنقضي عجائبه حتّى يستغنى بفهم المتقدّمين عن فهم المتأخِّرين.

 

وفيما يلي من الصّفحة 23 من كتابه: فيما يشعرنا نحن بأنّنا المقصودون بالقرآن ، ولا أحدَ أوْلى به من الآخر في كلّ زمان.

وإلى هنا يكفي لما فيه المعنى لأنّ الحديث مازال يطول وإنّنا قد اقتصرنا على ذِكر أهمّ عناصره.

 

        ما لكم يا مؤمنين ؟! الأولاد والبنات تنَصَّروا في بعض الجهات مِن حيث العقيدة أمّا مِن حيث تصرّفاتهم ومعاملاتهم الخاطئة فحدّث ولا حرج والحال أنّهم لازالوا شبابا عند آبائهم وأمّهاتهم. وأنتم لازلتم تقولون لا يمكن أن نأمرهم بمعروف أو ننهاهم عن منكر تماشيا مع آداب الحضارة العصرية. أيُّ حضارة هذه الّتي أبْدلت المعتقدات وأشَانَتْ التّصرُّفات ؟ ونحن نقول إنه من الواجب -الآن- تكثيف حملات الوعي الدّيني الّذي أصبح المجتمع خاليا منه كالنّصيحة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لعدم انتشار أسباب الفساد بل منعها كلّيا وذلك لردعهم وإرجاعهم إلى سواء السّبيل ليكونوا مؤمنين حقّا ويتجنّبوا كلّ ما فيه شُبهة كما جاء بالحديث الشّريف: (من تشبّه بقـوم فهو منهم) [رواه أحمد عن بن عمر رضي الله عنهما]. هذا مجرّد تشبّه فما بالك بمن صار منهم ؟ أو تخشون إذا صدعتم بالأمر ما جاء بِهذا الحديث الشّريف. "مالكم وأهـل لا إلـه إلاّ الله"؟! فنقول لكم: إنّ أهل لا إلـه إلاّ الله الحقيقيون الّذين نهاكم الله عنهم هم المتمسِّكون بالكتاب والسنّة وليسوا مارقين ومرتدّين ، لا منافقين ولا مشركين.

 

    ومِن المحتمل أنّ علماء اليوم الّذين لهم غيْرة على الدّين الإسلامي عندما يطّلعون على كشف هذا النّقاب فيصدعون ببيان حقائق الأمور لمجتمعاتهم مِن أحكام وتنبيه وعبر وأمر ونهي وتنذير وتبشير وتحذير وترغيب وترهيب وما شابه ذلك. ولا أعتقد أنّ أهل الخير مِن العلماء وغيرهم سيعارضون الآن ما جاء بهذا المقال  لأنّه كان سابقا يعترضهم سدٌّ منيعٌ مِن قول القائل: ما ترك الأوّل للآخر شيئا.

     وقد عرضنا بسطة للأستاذ الشّيخ أحمد العلاوي تكون كافية بإذن الله لدحض هذا السدّ الوهمي الّذي عطّل الكثير مِن أهل المواهب مِن جميع الأصناف مِن نشر الخيرات في مجتمعات الأمّة الّتي هي في حاجة إليها. ونرجو مِن أبنائها مَن يتفضّل بذلك عليها.

 

     وعلى العلماء وكافّة أفراد الأمّة أن تكون خشيتهم الكبرى مِن أن لا يرَوْا أنّ ما جاء بالقرآن ليس كلّه للأمّة المحمّدية بل كلّه لها لأنّ هذه الأمّة بدايتها منذ بعثة الرّسول سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلى نهاية الزّمان وهي القائمة بالدّين الإسلامي ، الدّين الواحد عند الله تعالى والرّجاء أن لا يجعلوه عضين كما ذكرنا.

     لا تكون أمّة الإسلام أمّة ذات عقيدة صحيحة إذا نبذت العمل بما جاء بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقدّست مِللا أخرى واستعملت عوض الكتاب والسنّة قوانين وضعية أَحْدثت لهم عادات أجنبية وتقاليد.


الحرية...

أيها الدعاة إليها ... دلوني بالله عليها
اخترنا لكم


رحلة الى الجنة و نعيمها



في ظلال آية: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ



نداء إلى الرحمة
والتراحم

الإحسان إلى
الصالحين

الإحسان إلى الصّالحين يـُـــــكسِب صاحبه درجات اليقين...