مسيرة الدليل >> النداءات الربانية >> المجتهدون في أمر الأمّة

المجتهدون في أمر الأمّة

   إنّ المجتهدين هُم الّذين يقومون بتحمّل أعباء فكريّة وعِلميّة وعملية لبثّها في المجتمع بأيّ طريقة كانت ، فرْضًا أو طوعًا أو إشارةً بِنِيّة الإصلاح بمُقتضى ما بدا لهم ، ويمكن أن نقول هُم خمسة أصناف:

1) مُجتهدون:  عُلماء بالله: نِعْم العلماء والمجتهدون ، لأنّ اجتهاداتهم بالله وفي الله يقتبسونها مِنْ نُور الله بنُور الله.

2) مجتهدون: عُلماء بأحكام الشّرع: بارك الله فيهم ، لأنّهم مُجتهدون في أحكام الله لِتِبْيانها للنّاس وتيْسيرها عليهم كلٌّ حسب استطاعته.

3) مجتهدون لإصلاح أوضاع اجتماعيّة عامّة وخاصّة ، للتّنسيق بين أفراد الشّعب

فيما يمكن أن يكون بينهم من روابط إنسانيّة ، تتطلّب منهم التّعاون للنّهوض بأحوالهم الاقتصاديّة والماليّة والصّناعيّة إلى غير ذلك... حتّى يكونوا في مستوى حضاري مُتقدِّم منيع. نسأل الله التّوفيق لهم.

4) مجتهدون: علماء سُوء وجهالة: تعسًا لهم ونعوذ بالله منهم لأنّهم لا يزيدون الأمّة إلاّ خَبالاً وتشتيتًا وتفريقًا. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ( رُبّ حاملِ فقهٍ غير فقيه ) رواه  بن ماجة. وقال صلّى الله عليه وسلّم في شأنِهم: ( إنّ أخوف ما أخاف على أمّتي الأئمّة المضِلّون ) رواه أحمد في مسنده عن أبي الدرداء.

5) مجتهدون مُغرضون يسعون لاستغلال الأمّة وتشتيت صفوفها وبثّ الفوضى فيها عمدًا لغايات شخصية ، وكم لهم من مقالات ودلائل وشعارات وكلام مُغْرٍ ومعسول ، فلا تدري من أيّ وِجهة يأتونكَ ؟ فاحذر بارك الله فيك !

    قال الله تعالى فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ¤ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ 204-205 البقرة.

ورحم الله الشّيخ البوصيري الّذي قال في قصيدته: - الهمزيّة - لمن هُم ليسُوا في مستوى الاجتهاد والتّجديد:

والأقـاويـل عـنــدهم كالــتـّمــاثـيــ      ـل  فـلا  يوهـمنّكَ  الخُــطــبـــاء

 

    وقال الشّيخ سيّدي أحمد العلاوي كذلك:

 

كـبـر مقـت الإلـــه يا خيـبة الّذي     

 

جعل زُخرف القول يستبدل الفعلا

وهل ينـفع التّشديق بالقول والثّـنـا

 

وهـل  ينفع التّزويق من شفاء العِلاّ

وهل ينفـع المريـض ما سوى طبّه

 

وهل يسرّ الغريب شيء دون الأهلا

     

     ولنُقدّم قصّة قارون مع سيّدنا موسى عليه السّلام للتّمييز بين عُلماء السّوء وعُلماء الحقيقة ، في قوله تعالى:

    فهذا تصوير لقول الجاهلين الّذين يدّعُون أنّهم يعلمون ، والحال أنّهم أصحاب مال لا عِلم لهم من الله ، وأنّهم لا يتدبّرون الأمور ولا يعرفون أصول النّفع من الله ولا فروعها إذ كفرُوا بنِعمة الله ورأوْا أنّ كسْبها كان بتدبيرهم لا بفضل الله. فكانت النّتيجة: خَسْف الأرض بقارون وبداره ، ولا ناصر له أو منقذ. وقال قومه بعدما تبيّن لهم الحقّ: لولا أن مَنّ الله علينا لخسف بنا.

    أمّا الّذين أُوتُوا العِلم ، نَجَوْا وأُوتُوا خيرًا كثيرًا في نجاة غيرهم لماّ نصحوهم. و الّذي تعصّب وادّعى أنّه على عِلم من عنده وهو قارون ، خسف الله به   وبداره الأرض لأنّ العِلم لا يكون إلاّ من عند الله الّذي قال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ¤ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ 4-5 العلق.

وفي بعض ما قيل في حديث قدسيّ: (... يا ابن آدم كلّكم جاهل إلاّ من علّمتُهُ ) رواه مسلم.

      فالمجتهدون للتّجديد والتّركيز والتّغيير سواء كان ذلك بِنِيّة الصّلاح أو بِنِيّة الطّلاح ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ 11 الرّعد.

فإن كانوا في نِعمةٍ فإنّ الله لا يُغيّرها عليهم إلاّ إذا غيّروها بالمفاسد والكفر بها. وإن كانوا في مفسدة لا يُغيّرها الله عليهم إلاّ إذا غيّروها بالمصالح والشّكر عليها. فالتّغيير إلى الخير موكول أمره إلى القوم أنفسهم.

 

    نعم ، إنّ المجتهدين في كلّ عصر لهم الأولويّة على المنوال المذكور. فالرّجاء الحذر حتّى لا يختلط الغثّ بالسّمين سِيَمَا في زماننا هذا الّذي حصلت وبرزت فيه أمور جديدة اقتضتها مُتطلّبات الحياة بحُكم التّقدّم العلمي العصري لظاهر الحياة الّذي نصّ عليه قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ 7 الرّوم.

 

    والنّاس وبالأحرى الخبراء ، لا يزالون يعلمون ويعملون أكثر من ذي قبل في المجال المتعلّق بشؤون الحياة الدّنيا ، فبارك الله فيهم وجزاهم خيرًا عن ذلك.

    والأجدر بنا الاهتمام كذلك بتجديد أمر الدِّين ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: ( إنّ الإيمان ليَخْلُقُ فِي جوف أحدكم كما يخلُقُ الثّوب فاسألُوا الله تعالى أن يُجدّد الإيمان في قلوبكم ) رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال في رواية أخرى: (جدّدُوا إيمانكم ، أكثروا من قول لا إلـه إلاّ الله ) رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه . 

    فالتّجديد يُنير القلوب حتّى لا تصدأ وحتّى لا يُلهيها التّكاثر الّذي جاء في قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ¤ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ 1-2 التّكاثر.

 

    وهذا التّكاثر برز في كلّ شيء: في الأعمال ، والمشاريع ، والملاهي ، والملاعب ، وكثرة الأموال ، وكثرة المتاع ، وكثرة الزّينة ، وكثرة المغريات ، وكثرة المواصلات ، وكثرة رَغَد العيش ، وكثرة الملابس ، وكثرة المركوبات ، وكثرة البناءات... والأشدّ خطرًا هو كثرة الغفلات والخوض فيما لا يعني.

    وعلى كلٍّ ، فإنّ الإشارة واضحة جليّة إلى ضرورة التزامنا بالكتاب والسُنّة ، وإنّهما مُتكاملان مترابطان إلى يوم الدِّين: ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 64 يونس.

    ولماذا لا بدّ منهما ؟ لأنّ النّاس تختلف ، والمجتمعات تختلف ، ولا يمكن ربطها والمؤاخاة بينها إلاّ بالحقّ حتّى تتّفق. والاتّفاق لا يكون إلاّ بالعمل بما جاء به الكتاب والسُنّة ، ولهذا قال الله تعالى:

- ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ 59 النّساء.

- ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ 105 التّوبة.

    ليس العمل للدّنيا فقط ، بل لابدّ من العمل للآخرة الّذي هو أهمّ من العمل للدّنيا بكثير.

    إذًا لابدّ لنا من أمور الفرض ، كما أنّه لابدّ لنا من أمور السُنّة ، وأكّد الله ذلك في قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ36 الأحزاب.

لا خِيار للمؤمنين على خِيار الله والرّسول لهم ، وهذا فرْض ، والفرض قد يكون لنا أو علينا:

- فالفرْض علينا: مصداق قوله تعالى: ﴿إنَّ الّذي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ 85 القصص. إنّ القرآن فُرِض على الأمّة للعمل بما جاء به من نُصوص شرعيّة شاملة ، لذا فلا يمكن إهماله.

- والفرض لنا: مصداق قوله تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ 2 التّحريم.

    وأخيرًا أنصح كلّ امرئٍ بأن لا يكتفي بتدبير نفسه عليه ، بل لابدّ من عرض ذلك التّدبير ومُقارنته بتدبير الله في شأنه.

 ونسأل الله التّوفيق للمجتهدين حتّى يكون تعاونهم على البِرّ والتّقوى.