مسيرة الدليل >> النداءات الربانية >> الوالي والرّعيّة

الوالي والرّعيّة

  الـوالي: هو السّلطان أو هو الأمير الّذي يتولّى أمر النّاس في أمّته أو دولته ، وقد يكون السّلطانُ الحُجّةَ والبرهانَ ، لأنّه يقوم بأمر رعيّته لإصلاحها على الحُجّة والبرهان ، لا على أساس الكذِب والبُهتان. ولذلك سُمّيَ سُلطانًا فهذا الاسم أُصطلح على قاعدة شرعيّة لمن يقوم بالحُجّة بين  النّاس ، هذا مِن حيث الأصل والجوهر ، أمّا من حيث الشّكل فنرى أنّ كلاًّ يعمل على شاكلته من حيث الأسماء والتّرتيبات والأعمال ، والله أعلم بِمَن أصدق وأهدى.

 

    والسّلطان يقوم بالأمر بينه وبين قومه وفيما بينهم على مبدإ الشّورى الشّرعيّة الدِّينيّة لمعالجة الأوضاع بالتّعاون مع بطانة خير -حاشية- صالحة ،  فإذا أصاب أيّدُوهُ وأعانُوه وإذا أخطأ نصحُوهُ وراجعوهُ ليحصل الرّضا ويعمّ النّفع والفائدة ، ويسود الأمن والطّمأنينة جميع الأفراد والمجتمعات من عاليها إلى سافلها ، ومن ذَكَرِها إلى أنثاها ، ومن صغيرها إلى كبيرها ، ومن بعيدها إلى قريبها ، وتنتشر العدالة والمساواة وتغشاهم الأُخوّة الإيمانيّة وسرّ المحبّة الرّبانيّة ، ولا خديعة ولا خيانة بينهم أو منهم.

 

    وليَحذر كلّ والٍ مِن اتّخاذ بِطانة سُوء لأنّه إذا أصاب شكّكُوهُ وعارضُوهُ ، وإذا أخطأ زكَّوْهُ. فهذا غِشّ بل هو سرطان للقضاء على وَحدة الأمّة ومناعتها ، وليس هو من حيث المبدإ فقط ، بل يتسرّب الهلاك لكلّ أمر ويشمل جميع الهياكل لا قدّر الله.

 

    الرّعـيّة: هي أفراد أو مجتمعات الأمّة الّتي هي تحت إمرة الرّاعي ، وهو الوالي الّذي هو حريص على السّعي للخير والإصلاح والعدل بقدر الإمكان بين أفراد ومجتمعات الرّعيّة الّتي هي مُطالبة شرعًا بالسّمع والطّاعة له ، ليحصل التّجاوب والتّعاون على أساس قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ 2 المائدة. مع الاحترام والتّقدير لتقوية اللُّحمة حتّى تُبنى الأمّة بناءً صحيحًا سليمًا خاليًا من الغِشّ والاستغلال والاستبداد ، ولئلاّ تتعرّض للتّصدّع والانشقاق فيتسرّب لها الضّعف والفشل فتصبح بذلك فريسةً للخلافات والنّزاعات، فيتفشّى فيها الوَهَن والهلاك العاجل أو الآجل لا قدّر الله.

 

    فبالتّعاون المتبادل على البِرّ والتّقوى يحصل التّقدّم والمناعة للأمّة بتمامها وكمالها ، لا بمُعاداة الحُكّام والدُّعاء عليهم بالهلاك ، ولا بقهر المحكوم عليهم ظلمًا وعُدوانًا، بل الواجب على الرّعيّة الدّعاء لهم خاصّة من أئمّة الجُمُعات ، ويكون دُعاء محبّة بالخير وللخير ، لا دُعاء كراهية بالشرّ  وللشرّ. لأنّ دعاء المحبّة إليهم خالصًا قد يأتي بثمرة الإصلاح ، أمّا الدّعاء لهم بالخير على كراهية مكتومة يكون نِفاقًا. وهذا الموقف يُحرَّم فيه النّفاق والتّملّق بأنواعه. واسمعُوا الحديث القدسي في هذا الشّأن: عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (إنّ الله تعالى يقول:  أنا الله لا إلــه إلاّ أنا ، مـالك الملوك وملِك الملوك ، قلوب الملوك في يدي ، وإنّ العباد إذا أطاعوني حوّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرّحمة والرّأفة ، وإن العباد إذا عصوني حوّلت قلوبـهم بالسّخط والنّقمة فساموهم سوء العذاب ، ولا تشغلوا أنفسكم بالدّعاء على الملوك ، ولكن اشغلوا أنفسكم بالذّكر كي أكفيكم ملوككم) رواه أبو نعيم في الحلية.

     فهذا الحديث يدلّنا على أنّ الانشغال بالملوك والدُّعـاء عليهم بالشرّ مذمّة ، لأنّ الذّنب ليس ذنب الملوك وحدهم ، إنّما ذنب الرّعيّة كذلك. ويُصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: ( كيفما تكـونُوا يُولّى عليكـم ) للدّيلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة.

    والنّصيحة لكلّ أفراد الأمّة على مُمارسة العمل الصّالح وعلى الكلمة الطّيّبة والنّية الحسنة ليصدُق قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها: ( كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته ) رواه الطبراني عن أنس رضي الله عنه. وعلى أن لا تختلف الأمّة عن الحقّ ، وأن لا تتباغض ، وأن لا تتحاسد ، وأن لا تتخاصم ، وأن لا تتفاتن لأنّ هذه الأحوال تبعث على القلق وتُثير الهموم في النّفوس ، مصداق الآية: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى 14 الحشر. يعني: قلوبهم ليست على مبدإٍ واحد.

    وإذا حصلت هذه الحالة المشينة نتجت العداوة وفشا النّفاق في القلوب وكثرت الخيانة وهلكت الأمّة والعياذ بالله. والله ينهانا عن الأسباب الدّاعية إلى ما ذكرناه بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا 56 الأعراف.

 

    مالكم أيّها النّاس ؟ أيُعقل لأمّة مسلمة أن تتحوّل عن إسلامها ؟ أيُعقل لأمّة تقيّة أن تتحوّل عن تقواها ؟ أيُعقل لأمّة كريمة أن تتحوّل عن كرمها ؟ أيُعقل لأمّة شريفة أن تتحوّل عن شرفها ؟ أيُعقل لأمّة طاهرة أن تتحوّل عن طُهرها ؟ أيُعقل لأمّة عادلة أن تتحوّل عن عدْلها ؟ فهذا النّوع من التّحوّل هو بعينه فساد في الأرض بعد إصلاحها.

 

    نعم نعم ! وتأكيدًا على ما أقوله ، قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ 41 الرّوم. من مآثم متعدّدة ومتنوّعة.

    أيّها النّاس ، قال تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ 6 الجاثية.

وقال تعالى للمحافظة على الوَحدة ومناعتها: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ 59 النّساء. يعني: إذا وقع خِلاف على أمْرٍ ما ، فلنسارع إلى النّظر في حُكم الله ورسوله من خلال الكتاب والسُنّة لا مِنْ خلال نظريّات أخرى قد تكون سببًا في تصدّع الوَحدة وإحداث الفِتن بين النّاس ، كما جاء في الحديث الشّريف: عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: ( أشْرَفَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أُطُمٍ من آطام  المدينة ، فقال: هل ترون ما أرى ؟ إنّي لأرى الفِتن تقع خلال بُيوتكم كمواقع القطر ) رواه البخاري.

    يُشير هذا الحديث إلى كثرة الفِتَن لاختلاف فِرَق المسلمين بسبب كثرة تحزّبِهم. وكان على الأمّة أن تلتزم حِزبًا واحدًا ، والأفضل والمرغوب هو أن يكون حزب الله لتكون الطّاعة لوجْهة واحدة كما جاء بالآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ 59 النّساء.

    لقد قرَن الله بين الرّسول وأُولي الأمر ، وإلاّ فلا تصحّ الطّاعة دون  ذلك. وأولو الأمر يكونون -هُم أنفسهم- طائعين لله وللرّسول ، ويكونون من الأمّة ليسُوا بخارجين عنها لا مِنْ حيث الدِّين ولا مِنْ حيث الوطن ولا مِن حيث العقليّة والمبـدإ.

    وإنّ طاعة أولي الأمر لله وللرّسول تضمن لهم طاعة الرّعيّة والخُضوع عن طواعية دون قهر ولا كراهيّة. وحتّى إذا حُكِم على أحدٍ منها لِمُخالفة ما ، كان حُكمهم مُؤيَّدًا من الله ، وفي براء من ذلك الحُكم المبرّإ من الظّلم والجور.

 وليكُن في عِلم الجميع أنْ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.